وسط أجواء يخيم عليها التوتر، تستضيف العاصمة الأرجنتينية، بيونس أيرس، رؤساء دول وحكومات أكبر 20 كيان اقتصادي دولي، يشكلون 85% من إجمالي الناتج في العالم، وثلثي سكانه و75 في المئة من تجارته الدولية و80 في المئة من الاستثمارات العالمية.

 

قمة مجموعة العشرين  التي من المفترض أن تتواصل فعالياتها على مدار يومين، الجمعة والسبت القادمين، تأتي هذا العام تحت شعار “”بناء توافق من أجل التنمية العادلة والمستدامة” في ظل تشديد أمني غير مسبوق، إذ لا يزال شبح قمة هامبورج العام الماضي وما تخللها من أعمال عنف يلوح في الأفق.

وبعيدًا عن أجواء التشنج المعتادة بشأن قضايا التجارة والمناخ التي باتت وجبة دائمة على موائد هذه القمة منذ تدشينها قبل عقدين ، العديد من الملفات الساخنة من المتوقع أن تفرض نفسها وبقوة على فعاليات قمة الأرجنتين، خاصة ما يتعلق بالتصعيد بين روسيا وأوكرانيا ودماء الصحفي السعودي جمال خاشقجي التي لم تجف بعد.

مشاركة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، بدورها صعدت من منسوب التوتر، في ظل ما تواجهه من رفض من مختلف الأطياف وهو ما يتوقع أن يلقي بظلاله الأمنية على الشارع الأرجنتيني الذي تشير التقديرات إلى احتمالية خروج العديد من التظاهرات الرافضة لعقد القمة ومشاركة بعض القادة بها.

استنفار أمني

من المرجح أن تشهد العاصمة الأرجنتينية طوقا أمنيًا محكمًا بدءا من اليوم الخميس وحتى مساء السبت، حيث سيشارك في عملية التأمين قرابة 22 ألف من أفراد الشرطة والأمن، وسط أنباء تشير إلى احتمالية القيام بـ 33 احتجاجا مناهضا للقمة حسبما أشارت صحيفة “الغارديان“البريطانية.

الصحيفة كشفت أنه سيتم تحويل مسار كافة الرحلات الجوية التي تحلق في سماء بيونس آيريس وإلغاء رحلات القطارات ومترو الأنفاق وكافة وسائل المواصلات العامة خلال فترة انعقاد القمة، تحسبًا لأي طارئ، هذا بخلاف دعوات بعض الوزراء في الحكومة الأرجنتينية سكان المدينة بمغادرتها خلال اليومين القادمين حسبما جاء على لسان وزيرة الأمن باتريشيا بولريتش.

سيكون هناك الكثير من المناطق المحظورة ، لأن الإجراءات الأمنية ستكون قوية للغاية ، وسنتخذ قرارات فورية إذا كان هناك أي عنف لأننا لن نسمح بذلك.. وزيرة الأمن الأرجنتينية

بولريتش في تصريح لها وجهت دعوة لمواطنيها من سكان العاصمة والبالغ عددهم 12مليون نسمة “نوصيك باستخدام عطلة نهاية الأسبوع الطويلة للمغادرة”  “اترك يوم الخميس لأن المدينة ستكون معقدة للغاية.” وهو ذات الوتر الذي عزف عليه آخرون داخل حكومة ماوريسيو ماكري.

وزيرة الأمن حذرت كذلك من أعمال العنف خلال أعمال القمة، قائلة “نعرف أن هناك محاولات لتوليد فراغ من العنف الشديد وحالات من الفوضى والاضطرابات خلال قمة العشرين” وتابعت “سيكون هناك الكثير من المناطق المحظورة ، لأن الإجراءات الأمنية ستكون قوية للغاية ، وسنتخذ قرارات فورية إذا كان هناك أي عنف لأننا لن نسمح بذلك”.

اختبار أمني كبير للشرطة الأرجنتينية، كونها المرة الأولى التي تستضيف فيها العاصمة كبار قادة العالم: الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ونظراءه الروسي فلاديمير بوتين، والصيني تشي جينبينغ، والفرنسي إيمانويل ماكرون، هذا بخلاف الوفد المرافق لكل من هؤلاء القادة، إذ يتألَّف الوفد الأميركي من 800 عضو في بيونس آيريس، وستنشر واشنطن في الأورغواي، على الضفة الأخرى لريو دو لا بلاتا، ثماني طائرات بعضها تابعة لسلاح الجو الأميركي، مع طواقم مدنية وعسكرية. وستجوب حاملة طائرات أميركية جنوب المحيط الأطلسي. وبالإجمال، سينتقل 15 ألف شخص إلى الأرجنتين، منهم ثلاثة آلاف صحافي، كل هذا لا شك وأنه سيمثل ضغطا كبيرًا على قوات الأمن الأرجنتينية.

الاتهام بقتل خاشقجي يلاحق ابن سلمان في القمة

ابن سلمان وتصعيد التوتر

جاءت مشاركة ابن سلمان لتزيد من حالة التوتر الأمني الموجود بطبيعته، خاصة بعد قائمة التهم الموجهة له من قبل أجهزة استخبارات دول يشارك قادتها في القمة، على رأسها الاستخبارات الغربية بما فيها وكالة (CIA )الأمريكية والتي توصلت إلى أنه هو من أصدر أوامره بقتل خاشقجي بمقر قنصلية بلاده في اسطنبول في الثاني من أكتوبر الماضي، هذا بخلاف إشرافه على الحرب في اليمن والتي تصنف بأنها واحدة من أكبر الجرائم الإنسانية في العصر الحديث.

ومما يزيد من سخونة الأجواء دراسة المدعي العام الأرجنتيني تلك الوثيقة المقدمة من منظمة “هيومن رايتس ووتش” في السادس والعشرين من نوفمبر الجاري، تطالب من خلالها السلطات الأرجنتينية التحقيق في دور بن سلمان في جرائم محتملة ضد الإنسانية في اليمن، ومقتل خاشقجي، استنادا إلى بند في دستورها متعلق بجرائم الحرب.

خمسة ملفات رئيسية على جدول أعمال القمة الحالية في بيونس أيرس، يتصدرها التصعيد الروسي الأخير ضد أوكرانيا

ورغم صعوبة استجابة  بيونس أيرس لطلب المنظمة الحقوقية في ظل الأزمة الاقتصادية التي تشهدها والتي بدورها في حاجة ماسة لمساعدات ودعم الرياض في المرحلة المقبلة، إلا أن الدفع بهذه الورقة لاشك وأنه يمثل ضغطا على السلطات الأمنية في إطار ترجيح احتمالات خروج مظاهرات منددة بمشاركة ولي العهد السعودي هذا بخلاف ما يثار بشأن تجنب عدد من قادة الدول المشاركة لقاءه على هامش القمة، اللهم إلا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والذي أعلن الكريملين عن لقاء قد يجمع بينهما.

لحظة وصول ابن سلمان للمشاركة في أعمال القمة

ملفات ساخنة على جدول الأعمال

لم تشهد أي قمة لمجموعة العشرين طيلة السنوات الماضية مناخا متوترًا كالذي تشهده القمة الحالية، حتى القمم التي تزامنت مع الأزمة المالية العالمية في عشرينات القرن الماضي أو أواخر العقد الأول من القرن الحالي، وهو ما يضفي عليها حساسية وأهمية كبيرة وإن كان منسوب التوقعات حيال ما يمكن أن تخرج به لم يتغير كثيرًا عن القمم السابقة.

خمسة ملفات رئيسية على جدول أعمال القمة الحالية في بيونس أيرس، يتصدرها التصعيد الروسي الأخير ضد أوكرانيا، إثر قيامها باحتجاز ثلاث سفن أوكرانية والتحفظ على طواقمها قبالة شبه جزيرة القرم، هذه الخطوة قوبلت بمعارضة الولايات المتحدة وأوروبا، هذا في الوقت الذي تشير فيه التوقعات إلى استبعاد أي لقاء محتمل بين ترامب وبوتين عكس القمة السابقة التي عقد الزعيمان على هامشها لقاءا مطولا.

ثم يأتي التصعيد الأمريكي الصيني بشأن الإجراءات الجمركية الانتقامية المفروضة من الجانبين ضد بعض السلع والمنتجات والتي أثرت بدورها على الاقتصاد العالمي، لتفرض نفسها هي الأخرى على قائمة جدول أعمال القمة، ومن المفترض أن يجري الرئيس الأميركي محادثات مع نظيره الصيني في محاولة للتوصل إلى حلول وسط.

كما أدى شعار “أمريكا أولا” الذي رفعه ترامب ليزيد من الشروخ الأمريكية الأوروبية، ويلقي بالتعددية التي طالما عزف عليها الغرب بعرض الحائط، تلك السياسة التي زادت من توتر الأجواء بين أمريكا وحلفاءها في أوروبا على وجه التحديد، ولعل موقف ترامب من مسألة الاحتباس الحراري أكبر تجسيد لهذا الشحن الزائد بين الحلفاء، والذي من المتوقع أن يكون حاضرًا وبقوة على هامش أعمال القمة الحالية.

بعيدًا عن الأزمات الاقتصادية والسياسية التقليدية التي تناقشها القمة سواء في دورتها الحالية أو السابقة، فإن قضية اغتيال خاشقجي ستكون حاضرة بشكل ما في أروقة القمة

ويفرض النفط نفسه كأحد القضايا الحساسة، فالسعودية وروسيا وهما أكبر دولتين مصدرتين للبترول يمكن أن تفكرا في خفض إنتاجهما للحد من تراجع أسعار الذهب الأسود، وهو ما قد يثير غضب بعض الدول الغربية، هذا في الوقت الذي تتأرجح فيه الأنباء بشأن النفط الإيراني ومدى قدرة الرياض على تعويضه بعد فرض العقوبات الأمريكية ضدها.

ويعد ملف “مستقبل العمل” في ظل التقدم التكنولوجي وتزايد الاعتماد على الآلات والاستغناء عن العنصر البشري، أحد أبرز أحد “الأولويات” التي ستناقشها القمة والتي أعلنت عنها الأرجنتين في وثيقتها المعدة لأجندة القمة، إذ تواجه حكومات الدول الأعضاء تحدي تأهيل القوى العاملة بالمهارات التي ستتطلبها وظائف المستقبل، وتوفير الحماية الاجتماعية للفئات التي ستتضرر.

الوثيقة تضمنت كذلك مناقشة ملف البنية التحتية ودورها في زيادة النمو والإنتاجية، غير أن حجم الاستثمار فيها حاليا لا يكفي، والفجوة في البنية التحتية من الآن وحتى عام 2035 يتوقع أن تبلغ 5.5 تريليونات دولار، بحسب بعض التقديرات، وهو ما دفعها لأن تصبح مركز اهتمام كبار قادة العالم.

علاوة على ذلك فإن ملف توفير الغذاء من المرجح أن يكون حاضرًا وبقوة، حيث يتطلب توفير احتياجات الغذاء للأجيال القادمة “وسيلة مستدامة لزيادة الإنتاجية الزراعية”، علمًا بأن دول المجموعة يمتلكون 60% من حجم الأراضي الزراعية حول العالم و80% من التجارة العالمية في الأغذية والسلع الزراعية.

كما يحتل الاقتصاد الرقمي والتجارة الدولية مكانة بارزة في القمة، حسبما أعلنت ممثلة الرئيس الروسي في قمة العشرين سفيتلانا لوكاش، التي قالت إن: “روسيا ذاهبة أولا وقبل كل شيء لمناقشة موضوعين رئيسيين هما: تطوير الاقتصاد الرقمي، ووضع التجارة الدولية.. بالطبع، لدينا مقترحات سيعلن عنها الرئيس في القمة”.

وبعيدًا عن الأزمات الاقتصادية والسياسية التقليدية التي تناقشها القمة سواء في دورتها الحالية أو السابقة، فإن قضية اغتيال خاشقجي ستكون حاضرة بشكل ما في أروقة القمة، حيث يواجه ولي العهد السعودي انتقادات شديدة من حكومات عدد من الدول المشاركة رغم جولته الرباعية الأخيرة لكل من الإمارات والبحرين ومصر وتونس في محاولة لتحسين صورته بعد التشويه التي تعرضت له خلال الأيام الماضية.

قادة العالم خلال قمة هامبورغ 2017

تحد كبير للكيانات الاقتصادية

تمثل القمة الحالية في بيونس أيرس تحديًا كبيرًا للكيانات الاقتصادية العالمية الكبرى، كونها قادرة على النجاح بما تمتلكه من إمكانيات هائلة إذ تمتلك 75% من حجم التجارة الدولية و80% من إجمالي الاستثمارات في العالم، هذا في الوقت الذي يشكك فيه ترامب في قدرة المجموعة على إنجاز أي خطوة للأمام بدون بلاده حسبما أشار في قمة هامبورج في 2017.

السياسة الاقتصادية التي اتبعها الرئيس الأمريكي منذ دخوله البيت الأبيض والتي ابتعدت كثيرًا عن قواعد لعبة مجموعة العشرين المعهودة، أثارت استياء الأوروبيين بصورة كبيرة، وهو ما عمق الخلاف بين الطرفين، ورغم الجهود المبذولة لإثناء ترامب عن توجهاته العنصرية في كثير من مساراتها إلا أنه لم يظهر حتى الآن ما يدعوا للتفاؤل بشأن أي تقدم ملحوظ في التوصل إلى اتفاق بينهما.

القوى  الكبرى المشاركة في القمة لا شك وأنها ستضع النمو الاقتصادي على رأس القضايا الأساسية التي ستناقش هذا العام، وسط مخاوف متزايدة إزاء تطورات الاقتصاد العالمي، ومستقبل التجارة العالمية، والمخاطر الناجمة عن تغيرات المناخ والأمن الغذائي ومستقبل أسعار النفط وهي أجواء تجارية تحمل التوتر بين عدة دول.

ورغم التوترات التي تشوب أجواء القمة الحالية وتراجع منسوب الأمل في تحقيق أي نجاحات تعطيها أفضلية مقارنة بالقمم السابقة، إلا أن العالم يحبس أنفاسه في انتظار حدوث أي مفاجأت قد تدفع بالمنظومة العالمية إلى مزيد من النمو والرخاء والأمان والعيش في سلام وعدالة.

أمل شحيح

“القمة التي ستشهدها العاصمة الأرجنتينية هذا الأسبوع لم تظهر أي علامة على أنها ستكون أفضل من سابقتها”.. هكذا توقعت صحيفة “ديلي تلغراف” في افتتاحيتها أمس الأربعاء، التي أشارت فيها إلى أن الكثيرين يلقون باللائمة على ترامب لأن سياسته الداعية إلى “أمريكا أولا” قادت إلى حرب تجارية، وإنه أحرج الزعماء الأوروبيين في حديثه عن فشلهم في صرف أموال كافية في مجال الدفاع.

الافتتاحية استحضرت بعض تفاصيل القمة السابقة في كندا التي انتهت بمواجهة حادة بين ترامب والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، عبر الصورة الفوتوغرافية الشهيرة التي أظهرت ميركل واقفة تنظر بصرامة وكأنها توبخ ترامب الذي يجلس أمامها مكتوف اليدين، تلك الصورة التي باتت حينها رمزا على انهيار التوافق العالمي في هذه القمة.

الصحيفة تبرر موقفها المتشائم بشأن نتائج القمة الحاليةو بأن الرئيس الأمريكي يبدو في جفاء مع القادة الأوروبيين وسيلتقي ببوتين الذي يعد في حكم المنبوذ من قبل معظم القادة الأوروبيين، مقللة من نتائج اللقاء المرتقب بين ترامب ونظيره الصيني وإمكانية حدوث انفراجة في الحرب الجمركية المستعرة بين البلدين والتي تأثر الاقتصاد العالمي بها بصورة كبيرة.

ورغم التوترات التي تشوب أجواء القمة الحالية وتراجع منسوب الأمل في تحقيق أي نجاحات تعطيها أفضلية مقارنة بالقمم السابقة، إلا أن العالم يحبس أنفاسه في انتظار حدوث أي مفاجأت قد تدفع بالمنظومة العالمية إلى مزيد من النمو والرخاء والأمان والعيش في سلام وعدالة.

…………………………….

المصدر: noonpost