هل تنجح “السترات الصفراء” في تكرار سيناريو ديغول قبل 50 عامًا؟
تحليل : وكالة الصحافة اليمنية//
لم يلبث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن تطئ قدمه أرض بلاده فور عودته من الأرجنتين، يوم الأحد 2 من ديسمبر، حتى تحَّول مباشرة إلى مسرح أحداث العنف التي شهدتها فرنسا، خاصة ساحة المعْلم الشهير قوس النصر، التي أراد ناشطو “السترات الصفراء” في باريس أن تكون ساحة نصرهم على حكومة يرونها تُمعن في العناد.
ماكرون الذي يدري أن الكرة باتت في ملعبه، سارع إلى عقد اجتماع؛ بحثًا عن حلول لأزمة تتفاعل سياسيًا واجتماعيًا بشكل متسارع، ويتساءل الجميع إن كان سيتمسك بما صرح به قبل عودته من قمة العشرين بالأرجنتين، حين قال: “لا مبرر للاعتداء على قوات الأمن ولا لتدنيس قوس النصر، والمسؤولون عن هذا العنف لا يريدون التغيير ولا التطوير وإنما يريدون الفوضى”.
وكأول رد فعل سياسي على نزع فتيل الأزمة التي تشهدها فرنسا بسبب احتجاجات ذوي “السترات الصفراء” طلب الرئيس الرئيس الفرنسي من رئيس حكومته استقبال رؤساء الكتل البرلمانية، وأيضًا بدء حوار مع ممثلي “السترات الصفراء” الذين يحتجون منذ فترة ضد غلاء المعيشة ورفع الضرائب وأسعار الوقود، الذين أسفرت مظاهراتهم عن مئات الجرحي وخسائر مادية خلال صدامات يوم السبت.
الرئيس ماكرون يعاين حجم الخسائر التي خلفتها المظاهرات في بعض مناطق باريس
السترات الصفراء.. من هنا بدأ كل شيء
قبل أسابيع قليلة بدأ ظهور دعوات للتظاهر على شبكة الإنترنت ضد رفع أسعار الوقود، بدأت بمقطع فيديو نشرته سيدة فرنسية تُسمى جاك
لين موراود (العمر 51 عامًا) على حسابها “فيسبوك” تتحدث فيه بغضب عن ارتفاع ضريبة البنزين، وما أسمته “سياسات الحكومة المناهضة للسيارات”، داعية الفرنسيين للاحتجاج على تلك السياسات.
انتشر الفيديو بصورة غير متوقعة، ولاقى استجابة واسعة النطاق من آلاف الفرنسيين، ليتم الاتفاق على نقل الاحتجاجات إلى الشوارع في يوم السبت الموافق 17 من نوفمبر/تشرين الثاني، وأعقب ذلك مقترح بارتداء سترات صفراء، ليظهر المحتجون بعدها وكأنهم عثروا على هوية تميز حركتهم.
في هذا اليوم خرج عشرات الآلاف متمركزين حول الطرق والجسور ليشلوا حركة المرور في جميع أنحاء فرنسا، وحملت حركتهم الاحتجاجية الشعبية المثيرة لقب “السترات الصفراء”، في إشارة إلى سترات الفلورسنت الصفراء التي يجبر كل سائق سيارة في فرنسا على حملها معه ضمن معدات السلامة لارتدائها عند إيقاف السيارة في حالات الطوارئ، وذلك بموجب قانون عام 2008 الذي يفرض غرامة قدرها نحو 153 دولارًا على عدم ارتداء السترة الصفراء بعد تعطل السيارة أو وقوع الحادثة، وكأن “السترات الصفراء” إشارة من الغاضبين إلى ماكرون “بأننا هنا ولا يجب تجاهلنا ولو في ظلمات الليل البهيم”.
تحرك هؤلاء بهدف الضغط على الحكومة الفرنسية حتى تتراجع عن زيادة الرسوم على المحروقات وكبح الضرائب المرتفعة وتحسين ظروف المعيشة ورفع المقدرة الشرائية التي توشك على الانهيار، لكن ما بدا أنه كان يومًا للاحتجاج ضد الضرائب على الوقود، تحول إلى موجة كاملة من الاحتجاجات على مدار الأسابيع الماضية، فيما تجاوزت مطالبات المحتجين قضية ارتفاع أسعار الوقود نحو قضايا أكثر عمومية شملت عدم المساواة في توزيع الثروة والفروق الواضحة بين النخب الحضرية التي يميل لها ماكرون كما يزعم المحتجون وبين المناطق الريفية.
ورغم عفوية الاحتجاجات وخلوها من المعالم التنظيمية، فإنها نجحت في اجتذاب اهتمام عالمي واسع مقارنة بالاحتجاجات الاقتصادية المعتادة، خاصة أن التظاهرات كانت عفوية تمامًا ولم يتم تبنيها أو قيادتها من قبل أي من الأحزاب والنقابات، ناهيك عن التنوع الكبير لشرائح المحتجين سواء من الناحية العمرية أم من الناحية الاقتصادية أو حتى سياسيًا حيث شارك فيها نشطاء من اليسار واليمين وحتى داعمين سابقين للرئيس ماكرون.
تحركت الحكومة على أكثر من صعيد، ولكن دون الرد مباشرة حينها على الاحتجاجات ودون أن تتراجع عن رفع أسعار الوقود، وبعد طول انتظار ظهر الرئيس ماكرون ليقول إنه لا تراجع عن القرارات الحكومية، وعاد رئيس وزرائه إدوارد فيليب الذي التقى عددًا من المحتجين ليؤكد المضي قدمًا في مشروع الضريبة الجديدة على الوقود، ومع ذلك دعا رئيس الوزراء إلى إجراء مزيد من الحوار.
ما هو أبعد من الوقود.. ماكرون رئيس الأثرياء فقط
في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلنت الحكومة الفرنسية زيادة أسعار الوقود، وفرض رسوم عليها في شكل ضريبة بيئية، تماشيًا مع ارتفاع أسعار النفط العالمية وتمهيدًا لخطة فرنسا منع بيع السيارات التي تعمل بالبنزين بحلول عام 2040، كان إقدام حكومة ماكرون على تلك الخطوة بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس بالنسبة للفرنسيين الغاضبين، فاندلعت احتجاجات “السترات الصفراء” المستمرة حتى الآن.
يؤكد ذلك استهداف الموازنة الفرنسية خفض الضرائب على الشركات الكبرى بمقدار 10 مليارات يورو، مع خطط للمزيد من التخفيضات، حيث من المقرر تخفيض ضريبة الشركات إلى 25% بحلول عام 2022، وهو انخفاض كبير عن مستواها الحاليّ البالغ 33%، وهو ما دفع بعض الصحف الغربية إلى وصفه بلقب “بطل الأغنياء”.
لم يكتف ماكرون بإعلان انحيازه للأغنياء، بل أعلن أيضًا حربه على الفقراء، فقد قرر تخفيض الإنفاق الحكومي على نظام الرعاية الصحية العامة، ومزايا الإسكان والنقل، وتجميد مشاريع البنية التحتية الرئيسية، والتخلص مما يقرب من 1600 وظيفة في الخدمة المدنية، وتخفيض المعاشات التي تمولها الدولة.
بخلاف ذلك، فإن هناك شعورًا عامًا وسط الطبقات المتوسطة والفقيرة في فرنسا بالتعالي والغطرسة في خطابات ماكرون تجاههم التي تبلغ حد الإهانة في بعض الأحيان، فعلى سبيل المثال، وفي أثناء زيارة رسمية للدنمارك أواخر أغسطس/آب الماضي قال ماكرون إن “الغال” مقاومون للتغيير بعكس الدنماركيين أو “اللوثريين” في إشارة لمقاومة الفرنسيين لمحاولاته لتغيير قوانين العمل، وغالبا ما يطلق لقب “الغال” على الشعوب التي سكنت أوروبا الغربية خلال العصر الحديدي، وتشمل حاليًّا فرنسا ولوكمسبورج وبلجيكا.
يشعر جزء من الفرنسيين أن ماكرون في صف الأثرياء والشركات الكبيرة
ليس هذا جديدًا، فبعد ثلاثة أشهر فقط من وصوله للحكم نشرت صحيفة “لوبوينت” الفرنسية خبرًا مفاده أن الرئيس الفرنسي الجديد أنفق في الشهور الثلاثة الأولى من توليه الحكم نحو 26 ألف يورو على خدمات التجميل والمكياج، بمقدار 12 ألف دولار في الشهر، و410 دولارات في اليوم، وأن هذا المبلغ لم يكن من جيبه الشخصي، بل من أموال دافعي الضرائب.
لا شك أن ذلك أدى إلى تهاوي شعبية ماكرون بشكل حاد حيث بلغت نسبة قبوله 25% فقط، وفقًا لاستطلاع أُجري قبل أسبوع واحد فقط، وفي استطلاع آخر أجرته مجموعة “أودوكسا” للأبحاث لصالح صحيفة لوفيجارو هذا الأسبوع، فإن 77% من المشاركين وصفوا احتجاجات السترات الصفراء بأنها مبررة، وبحسب معهد الاستطلاع إيلابي، عبّر 73% من الفرنسيين عن دعمهم للحركة الاحتجاجية التي غطت شوارع فرنسا باللون الأصفر.
كما أن استطلاعًا آخر للرأي أنجزته مؤخرًا مجموعة أبحاث “إيفوب”، نُشر بصحيفة “لوجورنال دو ديمانش”، أكد أن شعبية ماكرون انخفضت إلى 25% فقط، حيث قال 4% فقط من المستجوبين إنهم “راضون جدًا” عن أداء ماكرون، بينما ذكر 34% أنهم “في الغالب غير راضين”، في حين أعلن 39% أنهم “غير راضين أبدًا”.
مستقبل ماكرون السياسي في خطر
يومًا تلو الآخر يفرض أصحاب “السترات الصفراء” أنفسهم كلاعبين بصورة أو بأخرى في المشهدين السياسي والأمني في فرنسا، وذلك قبل أن يظهر الرئيس السابق فرانسوا هولاند ويعرب عن دعمه لهم في فترة تتلاحق فيها الانتقادات للرئيس ماكرون الذي يواجه انخفاضًا حادًا في شعبيته.
ورغم أن الحكومة تبدو منفتحة على الحوار والنقاش فإنها لا تبدو مستعدة للاستجابة لمطالب إلغاء الزيادة على ضرائب الوقود، وهو ما ينذر بتصاعد الموقف، فمثل هذه الاحتجاجات لم تكن في وارد ماكرون، وهو ما يطرح أسئلة عن مآلات الاحتجاجات والسيناريوهات التي يمكن أن تمضي إليها، ويرى مراقبون أن المشكلة الأكبر هي افتقار هذه الاحتجاجات لمن يمثلها للتفاوض مع الحكومة.
يرسم أصحاب السترات الصفراء على ملصقة فنية في الشوارع تصور الرئيسين ماكرون وترامب
ومع كون ماكرون لم يعط أي إشارة على التراجع عن إصلاحاته حتى الآن، فمن المتوقع أن يظل الرئيس الفرنسي في مرمى المتظاهرين لفترة من الوقت، مع سؤال مفتوح عن قدرة إصلاحاته على الصمود في وجه الرفض الشعبي، ومدى قدرة الاحتجاجات على التوسع لتشكل تهديدًا لماكرون وحكومته، أو لمستقبله السياسي وحظوظه في انتخابات 2020 على المدى الأوسع، في ظل شعور عام بأن أداء الرئيس الشاب أصاب معارضيه ومؤيديه معًا بقدر كبير من الخذلان.
ومع إعلان فرنسا استعدادها للنظر في إمكانية فرض حالة الطوارئ من أجل تعزيز الأمن في البلاد، كما قال وزير الداخلية الفرنسي كريستوفر كاستانير، لا يبدو أن الحوار هو اللغة المشتركة، فتباعد المواقف تكشف عنه بوضوح المشاهد غير المألوفة في الشارع الفرنسي، حيث خلفت انتفاضة أصحاب السترات الصفراء خسائر مادية فادحة.
والأكيد أن اختبار القوة ما زال قائمًا بين المحتجين والحكومة، فالاحتجاجات تحولت إلى نيران عمياء تأتي على الممتلكات العامة والخاصة، وجدران المباني التي حملت آثار التخريب والاعتداء، حملت أيضًا رسائل واضحة لماكرون وحكومته، فتقول “من حقنا أن نثور”، وأخرى تدعو ماكرون للرحيل.
أكثر من ذلك فقد امتدت “السترات الصفراء” إلى عدد من العواصم الأوروبية، حيث شهدت العاصمة البلجيكية بروكسل احتجاجات عنيفة الخميس الماضي، كما امتد حراك “السترات الصفراء” إلى هولندا، اعتراضًا أيضًا على ارتفاع أسعار الوقود وتكاليف المعيشة وزيادة الضرائب، وبالتالي، ذكرت حركة “السترات الصفراء” الفرنسيين بأحداث عام 1968، التي انطلقت من باريس لتعم كل المدن الأوروبية.
هل يواجه ماكرون مصير ديغول؟
50 عامًا تفصل بين التحركين الاحتجاجيين، ففي مايو/أيار 1968، كانت فرنسا تعيش أزمة اقتصادية خانقة حملت دلالاتها وجود أكثر من 500 ألف عاطل عن العمل، ونحو مليوني عامل يحصلون فقط على الحد الأدنى للأجور، إلى جانب ارتفاع كبير في أسعار المواد الأساسية وإيجارات المنازل، فضلاً عن تدهور الاقتصاد وانتشار البطالة.
احتجاجات الحركة الطلابية في فرنسا مايو/أيار 1968
كان يدير البلاد وقتها بطل الاستقلال الجنرال شارل ديغول الذي وجد نفسه في مواجهة حرب اقتصادية كانت أقسى عليه من الحرب العالمية الثانية، حين وجد نفسه وحيدًا في مواجهة الشوارع الغاضبة في 13 من مايو/أيار 1968، حيث أُعلن الإضراب العام الشامل الذي وصف بأنه أهم إضراب في تاريخ فرنسا، كونه جعل البلاد تعيش حالة شلل تام لأسابيع، في حين انتشرت المظاهرات في الشوارع وعمت الفوضى البلاد وسقط جرحى وقتلى في مواجهات مع الشرطة.
وعلى الرغم من أن الحكومة نجحت أواخر الشهر في توقيع اتفاق مع النقابات يرفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 35%، إلى جانب امتيازات أخرى لصالح العمال، فإن الغضب استمر، مما دفع ديغول لحل الجمعية الوطنية (البرلمان)، وفي الـ30 من يونيو/حزيران 1968، جرت انتخابات برلمانية حقق فيها اليمين فوزًا مهما، بأغلبية 293 من أصل 487 مقعدًا.
ومع حلول أبريل/نيسان 1969، وفي محاولة منه للخروج من الأزمة السياسية الخانقة، دعا ديغول الشعب الفرنسي للمشاركة في استفتاء بشأن إصلاحات تهم مجلس الشيوخ ومشروع اللامركزية الإدارية، وتعهد بالاستقالة إن جاءت الأغلبية ضده، وبالفعل، استقال ديغول بعدما صوت 52.41% ضد الإصلاحات التي تقدم بها، وتم ذلك في الليلة نفسها التي جرى فيها الاستفتاء، منهيًا بذلك العهد الديغولي وإلى الأبد.
أمَّا إيمانويل ماكرون فربما لا يمكن مقارنته بديغول من حيث الشخصية السياسية، فالأول اتهمه خصومه خلال الحملة الانتخابية التي أتت به للرئاسة عام 2017، بالافتقاد لأي تجربة سياسية تمكنه من قيادة الدولة الفرنسية، وأنه “نجم صعد فجأة” بعدما قاد حركة “إلى الأمام” ونجح في الوصول للإليزيه، أما من حيث الوقائع والأحداث فإن الأيام القادمة ستجيب عن مدى قدرة “السترات الصفراء” على تحقيق ما نجحت فيه الثورة الطلابية قبل نصف قرن.
………………………………..
المصدر: noonpost