البشير رئيس الصدفة.. من انتزاع السلطة إلى تمزيق السودان
البشير رئيس الصدفة.. من انتزاع السلطة إلى تمزيق السودان
تقرير: وكالة الصحافة اليمنية//
يبدو الرئيس السوداني من لكنته العادية وملابسه المدنية وقصره القابع وسط العاصمة الخرطوم، الذي جاروه بقصر جديد منذ عامين، أنه رجل مدني، وجاء بانتخابات ديمقراطية، لكن في الواقع هذا الشخص هو نفسه العقيد الركن عمر حسن البشير قائد انقلاب 30 يونيو 1989.
البشير الذي يُكمل 30 عامًا في الحكم في شهر يوليو القادم، لم ينته غرام السلطة لديه على مشارف الثمانين عامًا، ورغم أن دستور السودان يسمح بولايتين فقط، رشح الحزب الحاكم في السودان رئيس البلاد عمر البشير للانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في 2020.
هذا الإعلان أعقبه بشهور قليلة احتجاجات عارمة في السودان، تكمل اليوم أسبوعها الأول، ضد رئيس وصل إلى السلطة عام 1989، وانتُخب لفترتين عامي 2010 و2015، لكن السؤال الأبرز: كيف وصل البشير إلى السلطة؟.
السودان.. تاريخ طويل من الانقلابات
لا يخلو تاريخ السودان من المفارقات العجيبة، فبعد استقلال السودان وانفصاله عن مصر عام 1956 بدأت الأحزاب السياسية تتشكل ويكون لها وجود على الأرض، فكان هناك اليمين مثل “حزب الأمة” المدعوم من الحركات الصوفية الموجودة بكثرة، وكان هناك اليسار ممثلاً في الحزب الشيوعي السوداني، وكان بينهما الجماعات الإسلامية والإخوان المسلمين، وظهرت الخلافات بين الأطراف الثلاث على الحكم.
بعد أقل من عامين فقط من الاستقلال، جرت أول محاولة انقلاب عام 1957، ثم تلا ذلك انقلاب عام 1958، تم بموجب اتفاق “حزب الأمة” ورئيس الحكومة عبد الله خليل على تسليم السلطات للفريق إبراهيم عبود، قائد الجيش في ذلك الوقت، الذي استمرأ البقاء في السلطة بعد أن كان وصوله إليها مجرد ظرف مؤقت.
شرع الفريق عبود في التقارب مع النظام المصري بقيادة جمال عبد الناصر في مصر ومع الكتلة الشرقية، ضد الحركات الإسلامية “المهدية والختمية والإخوان” التي أخذت تطالبه بتسليم السلطة، وبسبب رفضه، شهد حكمه عدة محاولات للانقلاب عليه خلال عهده القصير الذي استمر 6 سنوات قبل أن تسقطه “ثورة 1964”.
في هذا الوقت برز أحد أعلام الثورة ومحركيها الأساسيين، أستاذ الحقوق بجامعة الخرطوم، الذي كان قد عاد لتوه من فرنسا بعد أن حصل على الدكتوراه من السوربون، ذلك الشخص لم يكن إلا حسن الترابي، أحد مؤسسي جبهة الميثاق الإسلامية (الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين في السودان)، ثم أصبح أمينها العام والشخصية الأهم بين إخوان السودان، وربما في تاريخ السودان السياسي كله.
إلى أن جاء إسماعيل الأزهري الذي تولى الحكم عام 1965، لكن لم تدم التجربة الديموقراطية السودانية طويلاً، وقبل أن يُتِم فترة رئاسته، وتحديدًا في يونيو 1969، استيقظ السودانيون على بيان من العقيد أركان حرب جعفر النميري، بانقلاب عسكري بالتحالف مع قيادات الحزب الشيوعي، وقبض على رئيس الجمهورية، وأسس حزب “الاتحاد الاشتراكي السوداني” كحزب وحيد في البلاد.
في هذه الفترة كان الإخوان يقومون بعملهم على الأرض، وكان زعيم الحركة الإسلامية حسن الترابي، الذي كان يدير المشهد بهدوء يؤمن بالتغيير البطيء، فأقنع الإسلاميين بإدخال أبنائهم في المؤسسات العسكرية الجيش والشرطة، وقبل الانقلاب بعامين، وتحديدًا عام 1967، تخرج في الكلية الحربية دفعة جديدة، كان من بين طلابها عمر حسن أحمد البشير، البالغ من العمر 27 عامًا، وكان من طليعة الشباب الذين تخرجوا من شباب الإسلاميين.
استمر النميري في الحكم حتى عام 1985، وبينما كان في رحلة إلى الخارج اندلعت احتجاجات شعبية، قادها الإسلاميون بمختلف أحزابهم بالتعاون مع اليساريين، ضد حكمه العسكري الذي أدَّى إلى تراجع الإنتاج الزراعي وتردي الوضع الاقتصادي والأمني في البلاد إلى مستوى بالغ السوء، أفقد الجنيه 80% من قيمته بسبب الحروب الأهلية.
نُفي النميري، وتولي المجلس العسكري بقيادة عبد الرحمن سوار الذهب إدارة المشهد السياسي خلال فترة انتقالية استمرت لمدة عام كامل، إلى أن وصل الحكم أول رئيس مدني اسمه أحمد المرغني، وحينها قرر حسن الترابي الانفصال عن الإخوان المسلمين وتأسيس “الجبهة القومية الإسلامية” التي حازت المركز الثالث في الانتخابات النيابية عام 1986، وشارك على إثر ذلك في حكومة ائتلافية برئاسة صهره
الصادق المهدي، وهو صوفي، ورئيس “حزب الأمة” المدعوم من الحركات الصوفية، وكان رئيس الحكومة أيضًا في عهد النميري قبل قيام الثورة الشعبية ضده.
رئيس الصدفة.. فتى الترابي يُمسك بالسلطة
بعد تهميش الإسلاميين في عهد المرغني، خطّط الترابي للانقلاب على الحكومة المدنية التي يشارك هو فيها، بدقة متناهية، وكان قد تخرج في الكليات العسكرية نحو 150 برتب عسكرية متفاوتة، وموزعين على مناصب مختلفة في الجيش، وكان أعلاهم رتبة العقيد الركن آنذاك عمر البشير.
إلى أن جاء يوم 29 من يونيو 1989، حيث اُستدعي رجال “الجبهة القومية الإسلامية” داخل الجيش، وكات هذه المرة الأولى التي يرى فيها الترابي العقيد عمر البشير، وعرف البشير أنه سيقرأ البيان الأول عشية الانقلاب فقط، وكانت مقومات البشير للقيادة تتمثل في كونه أعلى رتبة عسكرية بين زملائه.
كان الترابي “الأب الروحي للمرحلة” يؤمن مع قادة الانقلاب بأن لا طرق للإسلام في حياة العامة دون تمكين في السلطة، وكان شبح ثورة الإسلاميين في الجزائر يُخيَّم على الوضع، فكانت ما سُميت بـ”ثورة الإنقاذ الوطني” عام 1989، التي بدأت بانقلاب عسكري.
نُفِّذ الانقلاب وسط اقتصاد معطل وعجز عن إنهاء الحرب الأهلية في الجنوب، وقاد البشير انقلابًا عسكريًا ضد حكومة الصادق المهدي المنتخبة، وأعلن بعدها نفسه رئيسًا لمجلس ثوري “مجلس قيادة الإنقاذ الوطني”، وُصف بأنه مؤقت، وزج بالقيادات السياسية الإسلامية في السجن، وعلى رأسهم صادق المهدي والترابي نفسه، وذلك بالاتفاق معهم حتى لا ينكشف أنهم وراء الانقلاب.
لاحقًا، وبعد أن اعترفت دول العالم بالانقلاب، خرج الترابي وقادة الأحزاب في شكل مصالحة وطنية، واكتفى في البداية بإدارة سياسة الدولة من خلف الستار من خلال تلاميذه، ثم قرر الظهور إلى الواجهة بتأسيس “حزب المؤتمر الوطني” ثم رئاسة البرلمان “المجلس الوطني” عام 1996.
انقلاب التلميذ على الأستاذ
بدأت خيوط اللعبة تتكشف بعد السيطرة الكاملة للإسلاميين، وتكشَّف الوجه الإسلامي للانقلاب شيئًا فشيئًا، وتوالت ردود الفعل عالميًا، وزاد الأمور تعقيدًا استضافة السودان لزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في الفترة من 1990 إلى 1996، فوُضع السودان مبكرًا على قائمة الدول الراعية للإرهاب عام 1993.
بدأ البشير نفسه يرفض تدخلات الترابي الذي لاحظ توحش البشير في السلطة، وتأرجحت علاقة البشير مع الإسلاميين بين تحالف وصراع وصل ذروته في حل البرلمان، وكان السبب مطالبة الترابي في البرلمان السوداني عام 1999 بتقليل وتخفيض صلاحيات رئيس الجمهورية عمر البشير.
كانت هذه اللحظة الفارقة، لينتهي شهر العسل بينهما في مساء 12 من ديسمبر/كانون الأول 1999، حيث خرج البشير ليعلن استكمال انقلابه بالإطاحة بالترابي، مستعينًا في تنفيذه بجناحين: الأول عسكري، يتمثل في زملائه الضباط الذين شاركوا معه في انقلاب 1989، وعلى رأسهم بكري حسن صالح وزير شؤون رئاسة الجمهورية، وإبراهيم شمس الدين وزير الدولة للدفاع.
أما الجناح الثاني فتكوّن من تلاميذ الترابي: علي عثمان طه نائب رئيس الجمهورية، ونافع علي نافع وغازي صلاح الدين الذين كانوا قد شبوا عن الطوق ورأوا مصلحتهم في التحالف مع البشير لإزاحة أستاذهم ذي القبضة الحديدية.
انفرد البشير بالحكم وعلَّق الدستور وحل البرلمان والأحزاب السياسية وفرض أحكام الطوارئ وأعلن حظر التجوال وخلع البذلة العسكرية التي أوصلته للسلطة، وعيَّن نفسه رئيسًا مدنيًا، معلنًا حكومة إسلامية، وصار حاكم أكبر دولة إسلامية حينها وإحدى أفقرها أيضًا.
من انتزاع السلطة إلى تمزيق السودان
منذ استيلاء البشير على السلطة مثَّلت قضية جنوب السودان التحدي الأكبر الذي يواجهه، على الرغم من أن الوقوف دون انفصال الجنوب كان من أهم المبررات التي ساقها البشير في انقلابه، بل إن هذه القضية أسهمت إلى حد كبير في رسم ملامح سياسته الداخلية وتحديد معالم علاقاته الإقليمية والدولية.
في بدايات حكمه كان البشير يرفض التنازل عن قضيتي علاقة الدين بالدولة ومنح الجنوبيين حق تقرير المصير كما يطالبون، وفشلت – الحلول العسكرية التي اعتبرها نظامه الأداة الوحيدة للتعامل مع قضايا التهميش والنزاعات العرقية بالغة القدم والتعقيد – في تحقيق النصر للنظام وإخضاع المتمردين.
ومع مرور الوقت، فرشت سياسات البشير الطريق الحريري ودقت المسمار الأخير في نعش وحدة السودان، رغم أن عهده شهد نهاية الحرب الأهلية بعد 5 عقود من الدمار، وذلك بإبرام اتفاق سلام أنهي أطول حرب عرفتها إفريقيا.
ورغم توقيع “اتفاقية نيفاشا” عام 2005 مع الحركة الشعبية لتحريرالسودان بقيادة جون قرنق التي أعطت الحكومة فرصة أخيرة لتدارك انفصال الجنوب قبل الاستفتاء الذي تم إقراره عام 2011، فإن البشير نفسه كان يبدو سعيدًا بالتخلص من الأمر برمته تاركًا الجنوب لينفصل ثم ليتمزق هو ذاته بالحروب القبلية والعرقية.
وفي دارفور اُتهم البشير بارتكاب جرائم إبادة في صراع خلف الكثير من الضحايا والنارحين، لذا أصدرت المحكمة الجنائية الدولية باسمه مذكرة اعتقاله عام 2008، بناءً على طلب المدعي العام للمحكمة لويس مورينو أوكامبو، متهمًا إياه بالتطهير العرقي وارتكاب جرائم ضد الإنسانية في دارفور، ويأتي هذا القرار بعد مرور أكثر من 7 أشهر من مذكرة أوكامبو التي وجهت أيضًا للبشير تهمة القيام بإبادة جماعية في الإقليم.
وفي فبراير/شباط 2015، أصدرت هيومن رايتس ووتش تقريرًا في 48 صفحة بعنوان “عمليات الاغتصاب الجماعي في دارفور: هجمات الجيش السوداني على المدنيين في تابت”، يوثّق حوادث اغتصاب جماعي ضمن تعديات أخرى على حقوق الإنسان ضد سكان شمالي دارفور، الاتهامات التي نفتها حكومة السودان جملة وتفصيلاً مانعة القوة المشتركة المشكلة من الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي “اليوناميد” من إجراء تحقيقات بشأنها.
ماذا قدَّم البشير للسودان؟
ضُيَّق الخناق على السودان أكثر، حيث شهدت 20 عامًا من حكم البشير عقوبات اقتصادية قاسية من الإدارات الأمريكية المتتابعة، وكان الحدث الدراما في عام 1993، هو اتهام أمريكا للسودان بدعم الإرهاب وزعزعة الاستقرار الإقليمي وانتهاك حقوق الإنسان ومنع الحريات الدينية، وأدرجت واشنطن السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، ردًا على استضافته زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن عام 1991، قبل أن يغادر الخرطوم عام 1996، تحت وطأة ضغوط أمريكية على السودان.
ازدادت الأحداث إثارة في عهد بيل كلينتون بفرض الولايات المتحدة حظرًا اقتصاديًا، فظهرت مشاهد منع تبادل السلع والخدمات وتقييد المعاملات المالية وتجميد الممتلكات والأصول السودانية ومنع تصدير التكنولوجيا الأمريكية له، وألزمت الشركات الأمريكية، المواطنين الأمريكيين بعدم الاستثمار والتعاون الاقتصادي مع هذا البلد.
في حلقة جديدة من مسلسل العقوبات أضاف جورج بوش الابن لمسته الإبداعية بزيادة الحظر ليشمل الأنشطة النفطية والبتروكيمياوية، وإدراج جهات متورطة في نزاع دارفور في قائمة العقوبات، وشملت 133 شركة وثلاثة أفراد، لكنه استثنى لاحقًا جنوب السودان ومناطق أخرى مثل دارفور والنيل الأزرق وإقليم أبيي.
البطل المرهق بالفساد الإداري لم يتحمل كل ذلك، فتأثر اقتصاده وتدهورت قطاعاته المختلفة خصوصًا بعد انفصال الجنوب، ورغم قيام السودان ببعض المحاولات لإرضاء خصمه الأمريكي كالتعاون لمكافحة الإرهاب وتوقيع اتفاقية السلام الشامل لوقف الحرب بين الشمال والجنوب، فإن كل ذلك لم يغير حبكة المسلسل سوى في تحولات درامية طفيفة أضافها باراك أوباما خلال 8 سنوات كالإعفاء المحدود لمعدات
طبية وآلات زراعية وتطبيقات للاتصال.
وفي عهد الرئيس الحاليّ دونالد ترامب جرت تسويات انتهت برفع بعض العقوبات الاقتصادية المفروضة على الخرطوم جزئيًا، ويقول البيت الأبيض إن ذلك نتيجة للتقدم الذي أحرزه السودان، لكن الإدارة الأمريكية أبقت السودان على لائحة الدول الداعمة للإرهاب.
أما السياسة الخارجية للبشير فقد اتسمت بالمراوغة والمناورة في المواقف شرقًا وغربًا، وكان آخرها التحول الدراماتيكي في الموقف السوداني تجاه رئيس النظام السوري بشار الأسد بعد عزلة استمرت لـ7 سنوات، كما باتت العلاقات الإسرائيلية السودانية تتصدر المشهد السياسي بشكل عام، خاصة بعد الحديث المتكرر من الجانب الإسرائيلي، بعقد سلسلة لقاءات سرية مع مسؤولين سودانيين، لبحث العلاقات
الثنائية وتطويرها.
واتضحت براغماتية البشير أكثر في علاقته بالإسلاميين وأعدائهم، فقد كان انقلاب البشير على الترابي في 1999 أحد الأمور التي أسعدت الإماراتيين كثيرًا فزاد اقترابهم من النظام السوداني والتنسيق الأمني والسياسي والاقتصادي معه، ويزداد الآن الضغط أكثر لمقاطعة قطر وتركيا.
صحيح أن في عهد البشير تدفق النفط، وعرف السودان شيئًا من الاستقرار الذي لم يدم، لكن انفصال الجنوب زاد المعاناة الاقتصادية، حيث أخذت الدولة الوليدة نسبة كبيرة من الموارد، وفقد السودان الجزء الأكبر من موارده، القادم من النفط، لتسقط الميزانية في هوة عجز سحيقة في ظل خضوعها لدين تجاوز الـ45 مليار دولار.
واضطرت الحكومة في 2013 – سعيًا منها لتقليص ذلك العجز – إلى رفع الدعم عن أسعار المحروقات لترتفع أسعار جميع السلع الأساسية ولتصل نسبة التضخم إلى عنان السماء؛ الأمر الذي أشعل موجة غضب واحتجاجات في أرجاء البلاد تصدت لها الحكومة بالطريقة الوحيدة التي تعرفها الأنظمة العسكرية، العنف والقمع.
مؤيدو الرئيس يدافعون عن زعيمهم ببعض الإصلاحات والإنجازات مثل انتشار الجامعات وتعبيد الطرق، فيما يجد معارضون أن الدولة تشيخ مع حكم الحزب الواحد والزعيم الأوحد، الذي قادت سياسته إلى أزمات سياسية خانقة واقتصاد مشلول وارتفاع في معدلات التضخم وصلت إلى 64%، وانهيار في العملة، وغياب للبنى التحتية، أما السجل الحقوقي فتخيم عليه ممارسات قمعية متواصلة.
…………………………
المصدر: noonpost