دراسة تحليلية – حسين الجنيد
عندما نود الكتابة عن الملف اليمني كتحليلٍ للصراع، بلغة الصحافة الحساسة للنزاع، سنكون في مواجهةٍ حتميةٍ مع ذواتنا الأمّارة بالانحياز، والمنصف منّا من سيقول الحقيقة كما هي بدون أي ريتوش؛ كونها الاستحقاق الجماهيري للمعرفة المطلقة للوقائع والأحداث التي تعصف بيوميات حياتهم.
إلا أن الحياد المحفوف بالاتهامات ستتجلى أصعب امتحاناته في الحفاظ على معيارية الإنصاف في تحديد المسمى العام لهذا الصراع، فهل نقول “الحرب في اليمن” أم نقول “الحرب على اليمن”؟
لكيلا تقودنا حروف الجر إلى مأزق الانحياز، تظل الحقيقة الجلية من خلال الشواهد أن هذه الحرب لم تعد تندرج في خانة الصراع الداخلي، منذ دخول السعودية وحلفائها الإقليميين دائرة الاشتباك وتحولهم لأطراف فاعلين في الصراع.
يبقى السؤال الأبرز والذي يدور في خلد الكثيرين ماذا تريد السعودية من حربها على اليمن؟
وللإجابة على هذا السؤال في سياق هذا التحليل، سأحصر القراءة في صلب الحدث المتصدّر عنوان الدراسة وأبعاده وارتداداته، بعيداً عن سياقات السرد المعلوماتي؛ كي لا تبتلع الهوامش المتخمة بالتفاصيل مساحات الطرح الجوهرية محل التساؤل.
عاصفة الحزم ونقطة التحولات
عند الوقوف على عتبات المشهد اليمني حتى الساعات الأخيرة قبل منتصف ليل الأربعاء في السادس والعشرين من مارس 2015م، كان أنصار الله وحلفاؤهم من يتصدر المشهد العسكري، فحدث مالم يكن يتوقعه غالبية اليمنيين ومن ضمنهم أنصار الله، حيث استيقظ الجميع حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل على أصوات دوي للانفجارات وسط تحليقٍ كثيف للطيران الحربي في سماء العاصمة صنعاء ومدن متفرقة؛ ليكتشفوا بعدها دخول السعودية وتحالفٍ مكون من عشر دول أخرى على خط المواجهة.
السفير السعودي في الولايات المتحدة الأمريكية عادل الجبير، يعلن من مقر سفارة بلاده في واشنطن عن بدأ عملية “عاصفة الحزم” العسكرية على اليمن، وأوضح في مؤتمرٍ صحفي عقده أن ذلك “استجابةً لدعوةٍ من الرئيس الشرعي عبدربه منصور هادي للدفاع عنه وعن الحكومة الشرعية والشعب اليمني من تحركات من أسماهم الحوثيين”، حسب وصفه.
إعلان الحرب هذا من الجانب السعودي، قابله رد جاء على لسان قائد أنصار الله السيد عبدالملك الحوثي، في خطابٍ متلفز بثته كالعادة قناة المسيرة، أعلن فيه إدانته لما أسماه بـ “العدوان” على اليمن، واعتبره انتهاكاً صارخاً للسيادة اليمنية وتدخلاً في الشئون الداخلية لبلد مستقل، داعياً السعودية إلى وقف عدوانها على الشعب اليمني، مؤكداً في خطابه أن أنصار الله لا يشكلون أي خطر على دول الجوار، ولن يسمحوا أن تكون اليمن مصدراً لزعزعة أمن المنطقة بشكل عام أو أي دولة بشكل خاص، مرسلاً عدة رسائل تحذيرية للسعودية في حال استمرار العدوان.
صحيحٌ أن عاصفة الحزم أحدثت الكثير من التحولات، خصوصاً في الميدان بما لعبته من دورٍ في تغيير موازين القوى على الأرض، وخارطة مناطق السيطرة والمواجهات، لكن التحول الأهم كان في التغير الطارئ على بنية الصراع الذي صار له بعداً خارجياً على مستوى الإقليم برمته، بعد أن كان محصوراً وفق تشخيص المراقبين له بالصراع داخل البيت اليمني.
وهو الأمر الذي يدفع بالكثيرين للتساؤل عن الأسباب التي جعلت السعودية تشن حرباً قد تتسبب فيها بزعزعة المنطقة بأكملها من أجل تدعيم سلطة رئيس، خصوصاً أنها كانت تملك العديد من الخيارات والوسائل لتحقق بها ما تريده بعيداً عن خيار التدخل العسكري المباشر.
الأهداف المعلنة للعاصفة
تثار الكثير من الأسئلة حول خلفيات التدخل العسكري السعودي في اليمن، وإن كانت الرياض بررت عمليتها العسكرية برفقة حلفائها أنها تأتي في إطار اتفاقية الدفاع العربي المشترك؛ دعماً للحكومة اليمنية الشرعية ومنع حركة أنصار الله من السيطرة على البلاد.
كتب غسان شربل في صحيفة “الحياة” اللندينة، المقربة من مراكز القوى في السعودية، أن “القرار السعودي هو محاولة جدية لتصحيح التوازنات التي اختلت في المنطقة، ولإنهاء مرحلة استضعاف العرب وأهل الاعتدال”.
وبحسب التصريحات الرسمية التي أعلنتها السعودية على لسان وزير خارجيتها حول طبيعة الأهداف التي تسعى لتحقيقها من خلال عاصفة الحزم، فإننا يمكن أن نلخصها كالتالي:
أنها استجابة لطلبٍ مباشرٍ من عبد ربه منصور هادي الرئيس الشرعي لليمن، الذي ناشد دول الخليج “بتقديم المساندة الفورية بكافة الوسائل والتدابير اللازمة؛ لحماية اليمن وشعبه من عدوان الميليشيات الحوثية المدعومة من إيران” ، وذلك كما جاء في الرسالة التي أرسلها للقيادات الخليجية.
الدفاع عن السلطة الشرعية في اليمن وإعادتها للحكم.
منع الهيمنة الإيرانية على اليمن، كونها تشكل عمقاً استراتيجياً للأمن القومي الخليجي من جهة الجنوب.
القضاء على “الإنقلاب الحوثي” والذي يشكل تهديداً مباشراً على الأمن القومي السعودي بحسب تعبيرها.
منع الحوثيين من السيطرة على باب المندب والذي يشكل ممراً حيوياً لنقل الطاقة عالمياً.
وفي سؤالنا له حول أهداف العملية العسكرية السعودية المعلنة، أثناء المقابلة التي أجريناها معه، يقول القيادي في أنصار الله حمزة الحوثي: ” ليس صحيحاً أن أنصار الله يشكلون أو شكلوا تهديداً وخطراً على أحد. وما أعلنته السعودية في تصريحاتها حول أهداف عاصفة الحزم يأتي في إطار التسويق الإعلام؛ للتغطية على الأهداف الحقيقية لهذا العدوان”.
مفنداً تلك الأهداف المعلنة على النحو التالي:
أولاً: فيما يخص تقديم هادي طلب التدخل، فإنه نفى معرفته بعملية عاصفة الحزم، وذلك في المقابلة التي أجرتها معه قناة أبو ظبي الإماراتية(1)، بتاريخ 6 يناير 2016م، وأنه علم بوقوعها وهو في طريقه من مدينة الغيضة متوجهاً إلى سلطنة عمان، بعد إبلاغه من قبل الأمريكان أن الجميع لن يتدخل عسكرياً في الشأن اليمني، بالإضافة إلى تصريحات الجبير وزير الخارجية السعودي، أثناء حديثه مع قناة سكاي نيوز البريطانية(2)، حيث أوضح أن عملية “عاصفة الحزم” جاءت بعد عدة أشهر من التشاور مع الجانب الأميركي. وأن هذا التشاور بات مكثفاً في الأسابيع الأخيرة إثر تصاعد الأمور التي أصبحت خطيرة جداً، وليست كما قال في مؤتمره الصحفي بواشنطن أن العاصفة كانت بطلب من الرئيس هادي، وهذا ما يؤكد التناقض مع الهدف الأول.
ثانياً: ليس صحيحاً أن إيران تهيمن على اليمن كما تحاول السعودية وحلفاؤها تصوير ذلك، فلم نسعى من ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر، تخليص اليمن من الوصاية والتبعية السعودية والأمريكية لنرتمي في وصاية دولة أخرى. نحن تربطنا علاقات جيدة واحترام متبادل مع إيران وغيرها من الدول مبنية على الندية واستقلال القرار اليمني. وسعينا بكل جدية أن تربطنا ذات العلاقة مع دول الجوار وعلى رأسها السعودية، ولكنهم رفضوا التعاطي معنا، وفرضوا العزلة السياسية على اليمن بعد الثورة، مطلقين حملات إعلامية ضخمة لتشويه هذه الثورة وأهدافها.
ثالثاً: لم نشكل بثورتنا تهديداً لأحد وهذا ما أعلنه قائد الثورة السيد عبدالملك الحوثي، مراراً وتكراراً في الكثير من خطاباته، بل وفي سبيل تأكيد ذلك حرصاً منا على بناء علاقات جيدة مع دول الجوار، تم ارسال وفد زار السعودية وعلى رأسه الأخ محمد عبدالسلام الناطق الرسمي لأنصار الله؛ لطمأنتهم أننا حريصون على أمن السعودية القومي، ولن نسمح أن تكون اليمن قاعدة تنطلق منها أي تهديدات لدول الجوار من منطلق المصالح الأمنية المشتركة في مكافحة ومحاربة التنظيمات الإرهابية، وكان التعاطي في البداية إيجابي، وفي تلك الأثناء توفي الملك عبدالله وصعد الملك سلمان ومعه قيادة جديدة رفضت التعاطي مع الوفد وطالبته بالمغادرة الفورية، معلنةً بذلك مرحلة تصعيدية من ضمنها هذا العدوان.
رابعاً: باب المندب من الجهة اليمنية هو ضمن السيادة الوطنية ومن الطبيعي أن نتواجد هناك، ولكننا لم نسعى لتهديد حركة الملاحة فيه؛ كوننا نحترم القوانين الدولية بهذا الخصوص، وقد أعلنا موقفنا هذا منذ البداية.
خامساً: نحن نتفهم مخاوف الجميع، وكان الأحرى بالسعودية وحلفائها، الجلوس معنا على طاولة حوار ومناقشة هذه المخاوف للوصول إلى أرضية ونقاط مشتركة ترضي جميع الأطراف، ونحن مددنا أيدينا لهكذا حوار وما زلنا نمدها لوقف هذه الحرب وبناء سلام عادل يرضي الجميع. وتأكيداً على ذلك ما قاله المبعوث الأممي السابق جمال بن عمر، في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن، بتاريخ 28 ابريل 2015م: “إن الأطراف اليمنية كانوا قاب قوسين أو أدنى من إبرام اتفاق سياسي، نتيجة حوار دام أكثر من شهرين عشية إطلاق “عاصفة الحزم”، لكن استمرار القتال على الأرض وإطلاق عملية “عاصفة الحزم” جعلا من غير الممكن مواصلة الحوار”.
ما الذي يريده التحالف من اليمن؟
وللإجابة على هذا السؤال، كبحثٍ عما إذا كان هناك دوافع لم تفصح عنها السعودية وحلفاؤها حول تدخلهم العسكري في اليمن، ينبغي علينا قراءة تأريخ العلاقات السعودية اليمنية، وتسليط الضوء على طبيعة وسياسات التعاطي السعودي مع اليمن كون هذه القراءة تعد مفتاحاً لفهم ما إذا كانت هناك احتياجات ومصالح لم تفصح عنها السعودية في إعلانها الرسمي عن أهداف هذه العملية العسكرية.
ومن خلال استطلاع عملاني لآراء مواطنين من شرائح متعددة، وتوصيفات تضمنتها مقالات الكثير من الكتّاب والصحفيين والنخبة المثقفة، وفي العديد من تصريحات السياسيين، يمكن القول أن السعودية تعد من أبرز الدول الإقليمية تأثيراً في اليمن، وذلك منذ رعايتها للمصالحة بين الجمهوريين والملكيين عقب ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م، وصولاً إلى رعايتها للتسوية السياسية للثورة اليمنية عام 2011م، فيما بات يعرف بالمبادرة الخليجية.
فيما يلخص غريغوري غوس(3)، أستاذ العلوم السياسية في جامعة “فرمونت” الأميركية، تلك السياسة بالقول: “تحاول السعودية، تأريخياً، منع أي قوةٍ من بناء قواعد تأثير لها في اليمن، لأن ذلك يؤثر على الأحداث في اليمن وشبه الجزيرة العربية ككل، وتفضل أن تكون علاقتها باليمن كعلاقتها بالإمارات الصغيرة في الخليج”.
ومنذ انتهاء حرب الملك عبد العزيز على اليمن والتي دامت قرابة العشر سنوات، وانتصاره فيها بمساعدة بريطانيّة، عام 1934م، أصبحت مناطق نجران وعسير وجيزان مناطق واقعة تحت الحكم السعودي المباشر، والتي كانت تعبر حتى ثلاثينيات القرن العشرين أنها جزء من السيادة اليمنية، وهذا ما اقتضته بنود “معاهدة الطائف” بين البلدين مرحلياً (من دون إقرار اليمن بالتخلي عن أراضيها).
يذكر غ. غوس في كتابه “العلاقات اليمنية – السعودية” أن أحد أهم أهداف السعودية في اليمن هو: “منع أي شكل من أشكال الوحدة، لأنها قد تكون دافعاً لنقض المعاهدة التي تمت عام 1934، وقد أثّرت السعودية على (اليمن الشمالي) بشأن الوحدة من سبعينيات القرن العشرين، وعندما أصبحت الوحدة أمراً واقعاً لم يجد آل سعود أمامهم إلا افتعال الفرقة بين المكونات اليمنية” مؤكداً على أن “السعودية لم تكن لتسمح بأي تغيرٍ يطرأ على البنية السلطوية نتيجة أي عارضٍ أو أحداث، دون أن تقوم باحتوائه وتوجيهه ليصب في صالح أجندتها في اليمن”.
انطلاقاً من هذه المقاربة التأريخية؛ لفهم طبيعة سياسات واستراتيجيات التعاطي السعودي في الملف اليمني طيلة العقود الماضية، وإسقاطها على أهداف عاصفة الحزم المعلنة، حتماً سيتشكل لدى المتابع منظوراً عملياً يساعده في استيضاح حقيقة تلك الأهداف، وتوسعة زوايا رؤاه لاستكشاف ما إذا هناك دوافع أخرى لم تفصح عنها السعودية.
وهذا يتّسق مع ما صرّح به الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في خطاب مهرجانه الانتخابي في التاسع من نوفمبر 2016م والذي قال فيه “إذا كنتم تفكرون باليمن، فالسعودية تجري وتلهث خلف اليمن” وأضاف وهو يخاطب الألاف من أنصاره ”إذا كنتم لا تعرفون السبب الحقيقي للحرب على اليمن فعليكم مغادرة القاعة لأنكم لستم أذكياء بما يكفي”، ليجيب بعدها ”هل رأيتم حدود السعودية المشتركة مع اليمن من قبل؟ إنها لا تنتهي، خط جغرافي طويل ليس له نهاية، فهل تعرفون ماذا يوجد على الضفة الأخرى؟ إنه النفط، إنهم يسعون خلف نفط اليمن وثروته الطبيعية وليس شيء آخر”(4).
انعكاسات وتداعيات عاصفة الحزم
وبالرغم من إعلان السعودية وطمأنتها للمجتمع الدولي أن هذه الحرب ستكون خاطفة، ومزمنة ومحدودة الأثر، إلا أن الاستراتيجية العسكرية والإجراءات التي اتخذتها، بدءاً بإعلان الأجواء اليمنية منطقة محظورة وصولاً لفرض حصار بري وبحري وجوي، تعتبر إجراءات تنطبق على مفاهيم الحرب الشاملة وليس الخاطفة. وكان لها انعكاسات وتداعيات على أصعدة مختلفة ومتعددة تتلخص في التالي:
الصعيد الإنساني:
أدت عاصفة الحزم ودخول التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات على خط المواجهة، إلى تغير موازين القوى على الأرض وتصاعد وتيرة الصراع والحرب في اليمن، فبعد أن كانت محصورة في بعض المدن وبين أطراف محلية، انخرطت في دائرة الحرب أطراف دولية، وتوسعت رقعتها لتشمل معظم الجغرافية اليمنية، فالمدن التي لا توجد فيها اشتباكات ومواجهات على الأرض تطالها غارات طيران التحالف العربي بالقصف الجوي الذي استهدف البنى التحتية والمنشئات الحكومية والمدارس والمستشفيات والمصانع وصولاً للاستهداف المباشر للمنازل والسكان المدنيين.
تقول (أم أسامة المطري): كنا نسمع أصوات الطائرات والقصف ونصاب أنا وأطفالي بحالة من الرعب المميت، وذات يوم كان الانفجار داخل منزلنا، ولم ينجو أحد سواي. أم أسامة تذهب بشكل شبه يومي إلى منزلها المهدم في حي جامع حجر تفتش بين الأنقاض، وحين سألناها ردت بنبرةٍ باكية والتراب والغبار يلطّخ ملابسها: “أفتش عن صورة أو لعبة أو شيء يذكرني بأطفالي الذين قتلوا دون أي ذنب”.
وفي إحصائية أخيرة لمنظمات حقوقية يمنية معنية برصد وتوثيق الانتهاكات وضحايا الغارات أن الضحايا المدنيين الذين سقطوا جراء غارات التحالف بلغ عددهم حوالي (34.072) ما بين قتيل وجريح(5).
الصعيد الاجتماعي:
انسحبت انعكاسات العاصفة على المستوى الاجتماعي في الداخل اليمني بشكلٍ مباشر وملحوظ، وذلك بارتفاع نسبة الفقر والبطالة إلى مستويات مخيفة، وتدهور العملية التعليمية جراء قصف المدارس وتوقف المدرسين عن التعليم بسبب انقطاع المرتبات.
يقول حسن محمد إبراهيم: أريد ابني أن يتعلم، هذه الحرب نحن من يدفع الثمن الأكبر فيها من حياة ومستقبل أطفالنا، فمتى ستنتهي؟
ومن جهتها أوضحت الباحثة الاجتماعية نوال العواضي، ما تسببت به عاصفة الحزم من تمزيقٍ للنسيج الاجتماعي اليمني في معرض قولها: “أصبح التنقل بين المدن صعب جداً خصوصاً على العائلات التي اشتهرت بألقابها وانتماءاتها، وهذا ما أدى إلى نظام أشبه بالفصل العنصري القائم على الهوية” مؤكدةً أن أفراد هذه العائلات لا يستطيعون السفر إلى المناطق الخاضعة لسيطرة حكومة هادي، أو حتى المرور بها كمدينة عدن والمكلا ومأرب خشية تعرضهم للاعتقال من قبل المسلحين الموالين للتحالف”.
معبرةً عن استيائها من هذا الواقع الذي آلت إليه الأمور واختتمت بقولها: “من المحزن جداً أن يكون اسم عائلتك سبباً في تعرضك للموت أو للاعتقال، وهذا مالم يكن إطلاقاً ضمن عادات اليمنيين، حيث كان المسافرون لهم حرمتهم، وأي شخص خارج دائرة الصراع يتمتع بحصانة وحماية تكفلها له الأعراف المجتمعية”.
الصعيد الاقتصادي
تميزت أوضاع اليمن الاقتصادية بالأزمات المتلاحقة، ولكنها وصلت لأسوأ مراحلها منذ أزمة العام 2011م، وما خلفته من آثار كارثية على الاقتصاد بشكل عام، لتأتي هذه الحرب وتهوي به إلى الحضيض.
حيث تسبب استهداف طيران التحالف للكثير من المصانع في انخفاض الإنتاج المحلي، وفقدان العاملين فيها لمصدر الدخل الذي كان يعيلون به أسرهم.
أحمد علون الوصابي من الذين فقدوا أعمالهم وباتوا بلا مصدر دخل، يتحدث عن معاناته وحالته المعيشية الصعبة: “قدمت إلى العاصمة من قريتي بحثاً عن مصدرٍ للرزق ولقمةٍ للعيش، بفضل الله وجدت عملاً في مصنع العاقل أحمل البضائع من المخازن إلى شاحنات التوزيع، صحيح أن الراتب لم يكن كافياً ولكنه يفي بالغرض في تأمين الغذاء لأسرتي، وفي اليوم الذي قصفت فيه الطائرات المصنع شعرت وكأنني أنا صاحب هذا المصنع وخسرت كل شيء، لأن زوجتي كانت على وشك الولادة وهو الأمر الذي شكل عبئ أكبر على كاهلي، كنت كالمجنون الذي يهيم في الأرض بحثاً عن عمل وأنا أرى أمامي مصير زوجتي وأطفالي حين يتضورون من الجوع، فلسنا ممن يمدون أيديهم يتسولون ويطلبون احساناً من الناس، وحين وجدت عملاً أخر في مصنع شهاب، شعرت أن الله أنقذ أسرتي من الجوع، وبعد قرابة الشهر والنصف، قصفت الطائرات المصنع وتمنيت يومها لو كنت مت داخل ذلك الحريق”.
ليست هذه معاناة أحمد الوصابي فقط، فهناك 80.100 قصة معاناة للذين فقدوا أعمالهم ومصادر دخلهم جراء استهداف حوالي 268 مصنع، وذلك في أخر إحصائية نشرها المركز الوطني للإعلام الاقتصادي، وأكدتها إحصاءات المركز القانوني للحقوق والتنمية.
لم يكن موظفي الدولة بأحسن حال من موظفي القطاع الخاص، حيث شكل انقطاع تسليم مرتبات موظفي الدولة بعد نقل البنك المركزي من صنعاء إلى عدن، كارثةً أخرى أشد وطأةً على الوضع المعيشي لليمنيين.
يحكي لنا (ص م خ) قصته هو الآخر، ولكنها فصلٌ مختلفٌ من المعاناة والألم، حيث شاهدناه وهو يتسول في جولة الرويشان بمنطقة حدة: “أكثر من سنة وأربعة أشهر وأنا لم أتسلم راتبي التقاعدي، وقبل خمسة أشهر قالوا لي أنهم يصرفون المرتبات في عدن، فقررت النزول إلى هناك، أخبروني أنهم يعتقلون المسافرين القادمين من صنعاء، قلت لم تعد المسألة تشكل فرقاً بالنسبة لي، فهو في النهاية موت إما بالقتل أو بالجوع، واقترضت مبلغاً يوصلني إلى عدن تاركاً خلفي أسرتي في ذمة الله على أمل العودة ومعي الراتب. وحين وصلت لأول نقطة عسكرية تابعة لقوات هادي أنزلوني من الحافلة، وقاموا بالتحقيق معي، أخبرتهم أنا رجل عسكري متقاعد ونزلت عدن استلم راتبي، وقمت بكيل الشتائم للحوثيين وأنني من مؤيدي الشرعية حتى لا يعتقلوني، قال لي أحد الجنود إذا كنت من مؤيدي الشرعية لماذا لم تأتي وتقاتل في صفوفها لتحرير البلاد، قلت له يا إبني أنا رجل متقاعد ولم أعد قادراً على فعل شيء ولدي خمس بنات أعولهم، لم يطل بقائي في النقطة بعد أن أقنعتهم أنني من مؤيدي الشرعية، وحين وصلت عدن ووقفت ساعات طويلة في طابور طويل أمام مبنى بريد منطقة كريتر، وحين وصلت عند الشباك أخبرني الموظف أن إسمي غير موجود وانهم يصرفون فقط لأبناء الجنوب، وقال لي ارجع للحوثيين يصرفوا لك”. يقول الحاج (ص م خ) الذي طلب منا عدم الافصاع عن اسمه أو حتى نشر صورته: “ثلاثة أيام بقيت في عدن وأنا أنام على ذاك الرصيف وأفترش الكراتين على رصيف أخر وأنا اتنقل بين مكاتب البريد لعلي أستلم الراتب، ولكن دون جدوى. كنت أذهب للمطاعم وأكل بقايا الأكل الذي يخلفة زبائن تلك المطاعم، ولا أملك حتى قيمة مواصلات للعودة، حتى وقفت وسألتني أحد الفتيات حين رأتني مفترشاً أحد الأرصفة المقابلة لمكتب بريد منطقة التواهي والدموع تنهمر من عيني كالمطر، مالك يا عم تحتاج مساعدة؟ فحكيت لها قصتي، فأخذتني إلى أحد المطاعم وطلبت لي أكل وأعطتني خمسة ألف ريال وقالت يا عم كنت أتمنى مساعدتك بقدر أكبر ولكن هذا قدر استطاعتي، خذ هذا المبلغ وارجع بلادك. وعدت إلى صنعاء كما ترى ولم يكن لدي حل سوى التسول لأعول أسرتي، مضيفاً والدموع تسيل من عينيه، الحمدلله أنني أملك منزلاً وإلا لكنت أنا وبناتي وزوجتي نسكن الرصيف بسبب عدم سداد الايجار كحال الكثير من الموظفين المستأجرين.
ختم حديثه بسؤال: ” يا ابني متى ستنتهي هذه الحرب وهل هناك خبر أنه سيتم صرف حتى نصف راتب؟ لقد تعبنا يا ولدي والله إن الموت أعز من هذه المهانة التي نحن فيها”.
تعددت أبعاد التداعيات لعاصفة الحزم على الاقتصاد اليمني ومستوياته، حيث تدهورت العملة اليمنية مقابل الدولار لتصل أسعار صرف الدولار بحوالي 490 ريال بعد أن كانت 220 ريال بنسبة ارتفاع بلغت الـ 105 %. والتي أدت بدورها إلى غلاء المعيشة والارتفاع الحاد في الأسعار والقيمة الشرائية لكافة السلع والمواد خصوصاً الغذائية، مما ينذر بوقوع كارثة إنسانية ومجاعة لم يشهد لها العالم مثيلاً منذ فترة طويلة وهذا بحسب تصريحات الأمم المتحدة والعديد من المنظمات الدولية الإنسانية.
لم تنعكس عاصفة الحزم سلباً على الاقتصاد اليمني فقط بل امتدت تلك الانعكاسات وصولاً للاقتصاد السعودي أيضاً والذي تضرر بشكلٍ مباشر وكبير.
وكالة “بلومبورغ” الأميركية نشرت تقريرها السنوي تحت عنوان “دليل المتشائم” كشفت فيه عن حجم فزع المراقبين السعوديين الكبير ورسمهم صورة اقتصادية كارثية قاتمة للسعودية جراء استمرار حربها على اليمن، مشددين أنها ستكبدها فاتورة باهظة التكاليف وتقود الرياض الى مربع ازمات اقتصادية خانقة، وسط تعاظم كبير لمظاهر السخط الشعبي لدى المواطنين السعوديين جراء تدهور مستويات المعيشة في بلد الذهب الأسود. وحتى خصخصة مؤسسات قطاع النفط، ومنها شركة “أرامكو” ورفع الضرائب وتخفيض قيمة العملة الوطنية؛ لن تمكنها من مواجهة تداعيات الأزمة الاقتصادية الحادة بسبب التكاليف الباهضة لهذه الحرب(6).
خلاصة تحليلية
مهما تفاوتت القراءات بشأن الأسباب الحقيقية لاندلاع الحروب، فالثابت أن الحرب قرار وليس نتيجة، تقوم بصياغته الأطماع والمخاوف.
وبرغم اختلاف التحليلات السياسية في توصيف حرب السعودية على اليمن سواءً على صعيد تحديد دوافعها أو اتجاهاتها أو على صعيد مشروعيتها القانونية، وهذا الاختلاف يولّد رؤىً متناقضة يصعب من خلالها تحديد الملامح والغايات الاستراتيجية منها، وذلك عائد للمنهجية التحليلية المتّبعة والمتّسقة مع تمترس المحللين سياسياً وفق قراءتهم لتعريف هذه الحرب ومستويات الصراع فيها.
إلا أن الثابت من خلال قراءة الوقائع والنتائج، هو حجم الكارثة التي تسببت فيها هذه الحرب على كافة الأصعدة خصوصاً الجانب الإنساني والإقتصادي لجميع الأطراف.
وهذه الكارثة هي الأرضية المشتركة التي ينبغي أن يقف عليها الجميع لمراجعة حساباتهم في هذه الحرب التي لا يعاني فيها سوى الإنسان، مقابل معيار الربح والخسارة.
ينبغي على الجميع الاعتراف والوصول إلى قناعةٍ مطلقةٍ أن الاستمرار في هذه الحرب لن يحقق لأي طرف فيها ما يتمناه، ولعل ثلاث سنواتٍ كفيلة للتأكد من واقعية ذلك.