استطلاع/ محمد الطويل//
لا يفارق الحاج محمد علي (70 عاماً) مصحفه الشريف يومياً؛ فالقراءة الفجرية التي يقوم بها في أيام الفطر تلازمه منذ ما يقارب نصف عمره، هذه العبادة تكونت لديه صغيراً.. المشاهدة البصرية لوالده وجده وكل المصلين في المسجد الذي يؤدي فيه صلواته وهم يتدارسون القرآن الكريم من وقت الآذان الأول (التسبيح) وحتى انقضاء صلاة الفجر بعد الأذان الثاني كفترة أولى، ثم معاودة التلاوة والقراءة للآيات والسور حتى شروق الشمس في المنزل كفترة ثانية.
هذه المشاهد أصبحت برنامجا يوميا للحاج محمد.. وعند سؤالنا له عن حاله والقرآن الكريم في شهر رمضان والعشر الأواخر أجابنا قائلاً: تزداد وتيرة القراءة والتلاوة للقرآن الكريم في شهر رمضان المبارك، الناس يتسابقون على ختم القرآن أكثر من مرة في شهر رمضان، تراهم يرتلون الآيات ويعكفون على المصاحف في كل أوقات الصلوات الخمس.. ترجع إلى حالك وأنت صديق القرآن: “لابد أن أكون أحسن وأظفر من أولئك المصلين الهادرين للحروف”.
ويصف: أحرص في العشر الأواخر على أن أختم القرآن الكريم حوالي ست إلى سبع مرات، وإذا كانت تجلياتي عالية فربما أستطيع في اليوم الواحد ختم المصحف قراءة وتلاوة.
نستدركه بالسؤال: مصحف كامل في يوم واحد!! يرد مبتسماً: التعود والارتباط بالقرآن الكريم يولدان لديك مهارة القراءة السريعة وأيضاً التدبرية.
عبد الله أحمد، طالب جامعي ومزارع في الريف، يخبرنا عن حياته مع القرآن الكريم في الشهر الفضيل والعشر الأواخر قائلاً: القرآن الكريم وحروفه وكلماته وآياته وسوره وأحزابه وأجزاؤه غذاء للروح وقوت للصائمين في نهار رمضان، تعلو وتسمو الروح مع ارتفاعات الصوت المرتل للآيات وكأنها تريد الذهاب إلى السماء .
يردف عبدالله بالقول: يغريك الهدوء الذي يعم كل شيء في الصباح فلا تسمع شيئاً، الحركة متوقفة، الناس في سبات عميق، هذه السويعات التي تمتد من بعد صلاة الفجر وحتى الساعة الحادية عشرة ظهراً، كنز ثمين يتمثل في انفرادك مع كتاب الله وتلاوة آياته وحفظها ومراجعتها.
نسأله كيف تقرأ القرآن بهذه الروح؟ يجيبنا: أحاول في هذا الشهر المبارك أن اُراجع المصحف واُثبت حفظي له بإتمامه ثلاث مرات حفظاً ومراجعة، أتم المصحف الأول في العشر الأولى، وأكمل المصحف الثاني في العشر الوسطى، وأختم الثالث في العشر الأواخر.
ويضيف “الوقت من بعد صلاة الفجر وحتى الساعة العاشرة صباحاً وقت العارفين، فيوضات تتبدى في هذا الوقت الثمين لا يدركها إلا من عاشها مع: “ألم، ألر، كهيعص، طسم، طس، والحمد لله سبح لله.. وكل الآيات والسور في كتاب الله” .
تلألأت السحر:
يشكل السحر – أوقات الليل المتاخمة لدلوف الفجر – روحانية وسكينة وطمأنينة فائضة، تشعر النفس والروح في هذا الوقت بانعتاقها من كل الصخب والنصب واللغوب الذي يعتريها في أوقات النهار وأوقات الليل الأولى، طبعا النفس البعيدة عن المسلسلات وشبكات التواصل الاجتماعي.
هذا الوقت يكون الارتشاف تسبيحاً واستغفاراً ودعاءً وقرآناً وصلاةً.
لنا وقفة صغيرة مع أحد السّحارين المستغفرين.. الحاج عبدالجليل علي، ستيني العمر، لا يجيد القراءة ولا الكتابة، لكنه يحفظ كل السور الصغار من القرآن الكريم وسورة الفاتحة التي تعلمها وحفظها على يد والده الذي كان أيضاً لا يقرأ ولا يكتب، وإنما يحفظ قرآن الصلاة فقط.
يداه السمراوتان والمعصورة ليونة، رغم كبر حجمها وكأنها وسادة قطنية صغيرة لا تنفك من الانعطاف والارتكاز بأصابعها تسبيحاً وتحميداً وتهليلاً وتكبيراً وحوقلة وصلاة على النبي محمد وعلى آله.
يقول الحاج عبدالجليل: “لا أستطيع أن أقرأ من الختمة (المصحف الشريف)؛ فأنا لم أتعلم القراءة والكتابة، وتشتاق نفسي لتقليب صفحات القرآن الكريم، عندما أرى أولادي وبناتي وأصحابي والمصلين في الجامع وهم يدرسون القرآن”.
ويضيف: الباقيات الصالحات هنّ سلوتي وإليهنّ أعود واُشبع شوقي القرآني، أغوص فيهنّ عشرات الآلاف حتى ينكسر نهمي للقراءة، أتلذذ في هدرهنّ وحدرهنّ، لساني يلوكهنّ على رأس الثانية، أصابعي تعيش معهن في ساعات السحر الصافية، إنهنّ: سبحان الله والحمد الله، والله أكبر، ولا إله إلا الله، وأستغفر الله العظيم وأتوب إليه، وصلى الله وسلم على محمد وآله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اليوم القرآني:
يمتاز اليوم والليلة في مدينة صنعاء بشهودات ووقوفات قرآنية باذخة، ربما لا تشهدها أي مدينة إسلامية أو عربية أخرى، هذه المدينة أنعم الله عليها بأصوات ملائكية تتناوب في إنعاشها وبث الطمأنينة فيها، تتفتح الأسماع بصوت الحافظ المرحوم محمد حسين عامر، والحافظ المرحوم محمد القريطي، والحافظ المرحوم احمد محبوب، والحافظ يحيى الحليلي، في أوقات السحر وحتى موعد الفجر، لتهجع التدفقات القرآنية الآتية من أفواههم إلى قبيل صلاة الظهر؛ ليتجدد الانبعاث والترتيل القرآني الصنعاني الفريد والذي يشعرك بنورانية وروحانية هذه المدينة الغارقة في الصدوح الملائكي…
يتلو هذا البيان التمهيدي ارتفاع أصوات التكبير والأذان من كل الجوامع والمساجد العامرة في صنعاء، وكأنها مدينة خُلقت للصلاة والقرآن..
إنها مدينة تجاهد وتقاوم وتصمد وتبذل الحياة لأناسها، وتريهم عظمة شموخها من جبالها المحيطة بها، وبصوامعها المرتلة والملبية والقائلة: الله أكبر.
……………………………
المصدر: وكالة الأنباء اليمنية “سبأ”.