ملف: وكالة الصحافة اليمنية//
كانت اليمن مسيطرة تماماً على رزاعة وتجارة البن في العالم، وكان ذلك بالنسبة لها، مصدر فخر واعتزاز، لأن الزراعة مرتبطة بهوية البلد الحضاري.
ولكن كيف بدأت القصة؟ .. ولماذا تلاشى احتكار اليمن لتصدير البن؟ وماهي أهم مناطق زراعته؟ والآمال العريضة بعودة البن اليمني إلى واجهة التجارة العالمية؟.. كل ذلك في سياق التفاصيل التالية:
في مطلع القرن الـ 19، ولأسباب عديدة، تلاشى احتكار اليمن لتصدير القهوة من موانئها الطينية الى بلدان العالم، لكن تجارة البن اليمني -آنذاك- لم تختفي أو تتراجع، عقب فقدانها ذلك الاحتكار.
توثق احدى الدراسات البحثية المستندة على وثائق الأرشيف الوطني الأمريكي (اطلع حلم أخضر على نسخة مترجمة منها)، جانباً هاماً من القصة غير المحّكية، عن تجارة وتصدير البن اليمني خلال النصف الأول من القرن الـ 20.
يتعقب هذا التقرير الخاص، وبالاستناد على عدد من المراجع والمصادر التاريخية، حكاية التنافس الدولي لاحتكار القهوة اليمنية في القرن الــ 20، وكيف سعى التجار الأمريكيون والايطاليين والفرنسيين، للسيطرة على تصدير القهوة اليمنية التي تعد الأفضل في العالم
من المخا إلى العالم
وفقاً لدراسات وأبحاث خلص” حلم أخضر” إلى أنه ولعقود طويلة، ارتبطت شجرة البن باليمن، وشكلت الثروة القومية للبلاد، واكتسبت شهرة عالمية لجودتها وانتشارها. فمنذ نهاية القرن الـ 14، احتكرت اليمن أسرار زراعة شجرة البن، وصدرت القهوة إلى أسواق العالم من ميناء المخا غرب اليمن، والذي اشتق منه اسم القهوة «موكا Mocha».
طبقاً لأحد المصادر، ظهر أول دليل موثوق على شرب القهوة ومعرفة أسرار شجرة البن في القرن الخامس عشر، داخل الأديرة الصوفية في اليمن، حيث تم تحميص حبوب البن، وتخميرها، وطحنها لأول مرة.
ووفقاً للمخطوطة (أدناه) «كان أول من أكتشف القهوة وأدخلها إلى عدن هو العلامة الصوفي جمال الدين أبي عبد الله محمد بن سعيد الذبحاني»، والذي يعود نسبه إلى بلدة “ذبحان” المعروفة في اليمن.
وخلال حقبة الاحتلال العثماني الأول لليمن، بين عامي 1536 – 1636، كانت اليمن تحتكر تجارة البن عالمياً، وقد سيطرَ الاتراك على تصديرها عبر موانئ اليمن.
ووفقاً لمقالة بحثية، تم شراء أول شحنة من القهوة اليمنية Mocka Coffee من قبل الهولنديون، من ميناء المخا في العام 1628. وقد زاد الطلب والمنافسة على البن اليمني بين الشركات الفرنسية، البريطانية والهولندية خلال فترة خمسينيات القرن السابع عشر للميلاد.
حيث وصل أعلى إنتاج للبن العربي اليمني Coffea Arabica في العام 1720، بعد إنشاء الهولنديون مصنعاً للبن في منطقة المخا سنة 1708، وبدأوا بتصديره. وبعد سنة أنشئ الفرنسيون مصنعاً آخر للبن في مدينة المخا سنة 1709، وخلال تلك الفترة شهدت موانئ: المخا، الحديدة، واللحُية حركة كبيرة لتجارة البن.
لكن، مع اكتساب مشروب القهوة شهرة واسعة، تمتع ميناء المخا أكثر من بقية موانئ اليمن، باحتكار قوي وبشكل متزايد، باعتباره المُصدر الوحيد في العالم للبن اليمني حتى نهاية القرن الـ 18.
البن اليمني في القرن الـ 19
تكشف دراسة تاريخية حول “العلاقات اليمنية الامريكية 1904” للباحث محمود هملان، أن السفن التجارية الأمريكية نقلت من ميناء المخا، في مطلع القرن التاسع عشر، حوالي ثلاثة أرباع الإنتاج من القهوة اليمنية، من قبل نشوء أية علاقات دبلوماسية أو تجارية بين البلدين.
وفي العام 1809، رفعت المنافسة الأمريكية لأسعار البن اليمني، الأسعار التي كانت سائدة لدى شركة الهند الشرقية EIC، من مبلغ 56 دولاراً (نحو 12 جنيه إسترليني) لثمن البالة (كيس القماش الضخم) إلى مبلغ 70 دولاراً (15 جنية إسترليني) آنذاك.
وقد طوّر تجار نيو انجلند New England، طريق التجارة إلى البحر الأحمر على طول الساحل الشرقي لأفريقيا، بعد الدوران على رأس الرجاء الصالح. مما وفر عليهم ذلك أجور الشحن التي أضيفت الى الكلفة التجارية التي تم فرضها من قبل شركة الهند الشرقية.
وخلال الفترة من يونيو/حزيران 1812 حتى فبراير/شباط 1815، انخفضت تجارة البن اليمني، وتراجعت عمليات تصديره إلى أدنى مستوياتها، بسبب إعلان الولايات المتحدة الامريكية الحرب على بريطانيا.
وقد شنت الولايات المتحدة حرب 1812، ضد بريطانيا بسبب اعتراضها للسفن التجارية، وبعد سنتين و8 أشهر من تلك الحرب الغريبة، عاودت تجارة استيراد البن اليمني للازدهار تدريجياً، وانتظمت بصورة متباعدة.
وتورد دراسة “العلاقات اليمنية الامريكية”، بيانات عديدة، توثق تاريخ تصدير البن اليمني، بالاستناد على أرشيف الوثائق الصادرة من القنصلية الأمريكية في عدن مطلع القرن العشرين.
تؤكد تلك الدراسة، أن المشاركة الامريكية لبريطانيا في تجارة البن موكا، والقيام بتصديره عبر ميناء المخا، كانت نشطة لأكثر من 40 سنة. وقد استمرت خلال الفترة: 1797 – 1839.
في حين تشير مقالة بحثية أن “كمية تصدير البن بين اليمن والعالم، في بداية القرن الثامن عشر وصلت قرابة 20 ألف طن في العام”.
وفي العام 1832، كانت القهوة اليمنية، وأوراق السنا، والجلود، واللبان، هي المواد الرئيسية التي يشتريها التجار الأمريكيون من ميناء المخا.
وفي المقابل، يقوم هؤلاء التجار بالتخلص من سلع القطن الأمريكية بأرباح صغيرة ويبيعونها على تجار المخا. بحسب ما دونته مذكرات الرحلات التي قام بها جوزيف بارلو فيلت، الى موانئ عدن والمخا في منتصف القرن الـ19.
ويقول الرحالة جوزيف فيلت، في كتابه “ملاحظات السفر“، ” كانت العملة الرئيسية في المخا، هي عملة التيجان الألمانية، كونها خالية من الثغرات والعيوب، وهي تعتبر مثل قيمة الدولار الإسباني، والتي كانت تمر دون اعتراض. في حين أن الدولارات الأمريكية لا يتم قبولها، كانت غير متداولة..والتجار في المخا لا يمنحون أي ائتمان، ولا يتلقون أي فائدة على الأموال المقترضة”.
وتشير مقالة، أن القهوة اليمنية أصبحت مشهورة جداً في أوروبا منتصف القرن 19، وخاصة في فرنسا، وكان معروفاً على نطاق واسع أن أفضل قهوة تأتي من اليمن، وهي حقيقة لم يغب عنها في ليون، رجال الأعمال الفرنسي ألفريد وبيير باردي. وبحلول العام 1880، تم إرسال ما يقارب من نصف محصول تصدير اليمن من البن إلى فرنسا، فقد أصبح تصديره أسهل بكثير، بعد افتتاح قناة السويس في العام 1869.
القهوة في القرن الـ20
مع بداية القرن العشرين، سيّطرَ التجار الأمريكيون على تجارة البن اليمني. بالرغم من احتكار السلطان محمد علي باشا (والي مصر) لنصف هذه التجارة، وجرى بيع بن المخا بأسعار عالية للأمريكيين. (دراسة: هملان، 2008).
وبحسب الوثائق الأمريكية، كانت كميات البن اليمني، التي شحنت من اليمن عبر ميناء الحديدة إلى الدول الأجنبية، جيدة للغاية، في ظل تنامي التجارة الحرة في العام 1933.
وفي ذلك العام، جرى تصدير كميات تجارية من القهوة اليمنية، قبل أن تبدأ “الشركة الوطنية اليمنية للاستيراد والتصدير” في مزاولة عملها، وهي شركة أنشأتها حكومة الامام يحي لاحتكار تجارة البن في العام 1934.
ترد في إحدى الوثائق الأمريكية: أن ” اجمالي كمية البن اليمني التي تم تصديره من داخل اليمن، خلال 6 أشهر في الفترة من كانون الثاني/يناير إلى حزيران/يونيو العام 1933، بلغت حوالي 27,918 ألف حقيبة من البن.
تحتوي كل حقيبة على 80 كيلوغرام من البن. أي ما يعادل قرابة 2,233,440 مليون كيلوغرام من القهوة”.
ووفقاً للوثائق، فأن “كميات البن التي تم تصديرها من اليمن في العام 1933، استوردتها عدد من البلدان أبرزها: إيطاليا، فرنسا، أمريكا، وبريطانيا. وغيرها”.
احتلت إيطاليا المرتبة الأولى من حيث استيراد القهوة من اليمن، نظراً لأنها كانت تتمتع باتفاقية تعاون تجارية موقعة مع اليمن، وقد حصلت على امتيازات في تجارة البن. وفي العام 1933 بلغت كميات البن اليمني التي استوردتها إيطاليا قرابة 11,478 حقيبة من البن، وكل حقيبة تحتوي على 80 كيلوغرام من البن.
في حين كانت فرنسا بالمرتبة الثانية، والتي استوردت كميات من القهوة اليمنية في نفس العام، بلغت حوالي 8,040 حقيبة من البن (كل حقيبة 80 كلغ).
وكانت الولايات المتحدة الأمريكية، في المرتبة الثالثة في قائمة مستوردي البن اليمني في العام 1933، حيث بلغت كميات القهوة التي تم تصديرها لأمريكا قرابة 6,550 حقيبة البن (كل حقيبة 80 كلغ).
في حين كانت بريطانيا تحتل المرتبة الثامنة، حيث استوردت من البن اليمني حوالي 1850 حقيبة من القهوة.
استغلال المصدرين والتجار
في كتابها: «كنت طبيبة في اليمن»، أوردت الباحثة والطبيبة الفرنسية كلودي فايان، والتي مكثت في اليمن مطلع الخمسينيات، بعض التفاصيل حول تجارة القهوة اليمنية، وكيف كان يتم استغلال صغار الفلاحين المنتجين للبن من قبل كبار التجار (تجار الجُملة) وكذلك المُصدرين الأجانب. إذ كانوا يشترون محصول البن من الفلاحين بثمن بخس، ويبيعونه بسعر يصل خمسة اضعاف المبلغ الذي دفعوه لأولئك الفلاحين.
تقول فايان: «حين كنت في ضيافته، قدم لي أحد الأمراء اليمنيين قدحاً من قهوة البن في مفرجه الفاخر، وتحدثنا عن زراعة البن الذي –كان- يشكل مع تجارة الجلود، الثروة الرئيسية لليمن. وقد شرح لي الأمير طريقة زراعة البن وسر القهوة».
«وقال الأمير: ان أراضي زراعة البن مُهّدت منذ القدم، على مسطحات المرتفعات، وهي المدرجات الزراعية في أعالي الجبال. وقد امتلكها المزارعون الصغار بالتوارث. ويشتري محصول البن منهم تجار الجُملة، والذين يبيعونه الى المُصدرين في ميناء الحديدة. ويتم نقل البن فوق الجمال، وأن الجمّل الواحد يحمل زكيبتين، تحتوي كل زكيبة واحدة على 90 كيلوجرام من البن. وثمن الزكيبة حوالي 100 ريال».
«وحين سألت الأمير، بكم يشتري التاجر المحصول من المزارعين، قال لي: يشتري تاجر الجُملة محصول البن من المُزارع بقيمة 20 ريالاً، ثمن الزكيبة الواحدة». (الزكيبة: كيس كبير من الخيش)
وتقول كلودي فايان: «سألته: لماذا لا يذهب المزارع بنفسه الى الحديدة لبيع محصوله هناك بشكل مباشر؟ وأجاب الأمير: إنه لا يستطيع الذهاب! لأن التاجر الكبير يدفع له في كل سنة، نقوداً من ثمن المحصول مقدماً، بحيث لا يتبقى للفلاح عند التسليم غير مبلغ عشرة ريالات عن كل زكيبة».
«وحين قلت له: ولماذا يقترض المزارعون بهذا الشكل؟ ومع أني كنت أعرف أن الربا، يتفشى هنا، كما يتفشى في سائر أرجاء الشرق. ولكن الأمير لم يكن غافلاً، فما أن وصلنا الى هذا الحد من التحقيق، حتى قام من مكانه، وضاعت ابتسامته، وقطع الحديث بيننا بفظاظة!». (فايان، 1960).
وعلى ذات السياق، أشارت الباحثة الفرنسية كلودي فايان، في كتابها، إلى التاجر الفرنسي الشهير المسيو أنتوني بيس، الذي أقام في عدن قرابة 50 عاماً، وشيد فيها إمبراطورية تجارية ضخمة، بعد احتكاره لتجارة القهوة اليمنية وتصديرها، إلى جانب تجارة الجلود، وأعمال أخرى. إذ كان يلقب بـ «ملك البحر الأحمر».
في 16 أبريل/نيسان 1899، جاء انتوني بيس من مرسيليا على متن باخرة إلى عدن، للعمل بوظيفة لدى شركة “باردي وشركاه Bardey-Co”، احدى الوكالات العاملة في تصدير البن المجلوب من شمال اليمن، إلى محمية عدن المستعمرة.
وفي العام 1902، أسس أنتوني وكالة صغيرة لشراء محصول البن في مدينة الحديدة، وخلال 10 سنوات، امتد نفوذ انتوني بيس داخل اليمن وخارجها. حيث استفاد من كون ميناء الحديدة لم يكن متطوراً، وغير صالح لاستقبال السفن التجارية الكبيرة أو المتوسطة، ونتيجة ذلك كانت تجارة تصدير البن اليمني تتم بالضرورة عبر ميناء عدن بدرجة كبيرة.
تقول الباحثة فايان عن لقائها مع انتوني: “لقد ردد لي نفس الكلمات التي قالها لأطباء البعثة الفرنسية الأولى التي زارته قبل 3 سنوات: ان اليمنيين ليسوا في نظره إلا مجموعة من اللصوص وقُطاع الطرق، وأنني سألقي بنفسي بين فكي الذئاب، وأنه مع هذا سيهب لنجدتي، ولن يتركني وحيدة”.
وتضيف فايان:” لقد شكرته؛ ولكني ازددت تصميماً على الذهاب الى اليمن لرؤية هؤلاء “اللصوص” الذين أتضح أنهم تجاسروا ورفضوا أن يقدموا محصولهم من البن للمسيو انتوني بيس”.
التاجر الأمريكي مارسيل واجنر
ومن بين التجار المصدرين للقهوة اليمنية، تورد الوثائق في قنصلية عدن، اسم رجل الأعمال الأمريكي مارسيل واجنر M.E. Wagner، وهو مدير شركة الشرق الأمريكي.
كانت تعمل في إطار عدة شركات في مجال الشحن والتصدير وحركة ملاحة السفن.
وفي حقبة الأربعينيات، كان لدى واجنر، علاقات تجارية مباشرة مع السلطات الإنجليزية في عدن، ومع عدد من الأمراء والمسؤولين في المناطق اليمنية، وتشير المصادر، أن واجنر كان يفضل تقديم عروضه التي تفضي بمبادلة شاحنات أو معدات زراعية يملكها، مقابل أخذ شحنات من القهوة اليمنية. بدلاً عن دفع نقود لشراء البن.