ما إن وصل المواطن خالد أحمد سريع، إلى مشارف منطقة الجريبة بكرش، حتى توقف للحظة واضعاً يده على جبهته وصوّب نظره إلى وسط قريته التي نزح منها جراء الحرب بين «المقاومة الجنوبية» المسنودة بقوات الرئيس عبدربه منصور هادي، و«أنصار الله» والقوات المتحالفة معهم، وسرعان ما أخذ نفساً عميقاً، وقال: «هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها منطقتي التي تركتها عنوة منذ ثلاث سنين، أنظر إلى هناك حيث تُعمم الغيوم ذلك الجبل تقع قريتي (الشعب الأسود) مسقط رأسي، ولدت وترعرت وكبرت فيها، لم أغادرها مرغماً في حياتي إلا هذه المرة وأتمنى أن لا تتكرر».
وبينما ظل يمسح سريعاً بنظره مناطق الجريبة، يمنة ويسرة، من حيث وقوفه بمنطقة الحدب، التي تبعُد عن قريته بنحو ثلاثة كيلومترات، يشاهد المرء الكثير من الأسر العائدة إلى قرى : السفيلى، وحبيل عُباد، وهيجة المر، والحبيل، وحرذ، والنجد، على امتداد ودي حدابة عائدين مشياً على الأقدام من مناطق النزوح بالأعشار والربوع والقبيطة، بعد أن تم «تحريرها» مطلع الأسبوع الماضي.
كل شيء تجاوز الحد
ويضف سريع ( 47 عاماً) : «لم نتوقع أن تطول الحرب هكذا، كنا نظن بأنها ستأخذ وقتاً قصيراً، كأي أزمة شهدتها البلاد خلال العقود الماضية وسرعان ما تنتهي وتعود الأمور إلى طبيعتها».
وبدأ نزوح وتشرد أبناء كرش شمال محافظة لحج، والتي يزيد تعداد سكانها نحو 25 ألف نسمه منذ اليوم الأول من الحرب في تاريخ 23مارس 2015م. وشهدت مناطق كرش ذات الطبيعة الجغرافية الريفية مترامية الأطراف أعنف المواجهات، كما شهدت معارك كر فر طيلة طيلة الثلاث السنين الماضية، تسببت بتشريد وتهجير ألاف الأسر عنوة إلى مديريات المحافظة الأخرى كالمسيمير، والحوطة، وتُبن، ومديريات ردفان، ويافع، ومديريات العاصمة عدن، فضلاً عن تسببها بهدم الكثير من المنازل، وتفخيخ الطرقات الرئيسة، والفرعية، والأراضي الزراعية، من قبل قوات «أنصار الله» لمنع تقدم أفراد المقاومة، الأمر الذي سقط على إثره قتلى وجرحى معظمهم من المدنيين.
يقول خالد سريع، وهو ينفث دخان سيجارة، كانت قد أشعلها لتوّه، الأمور تجاوزت هذه المرة حدها في كل شيء، فلا مرتبات منتظمة للموظفين ولا أمن والا استقرار، وأزمات اقتصادية متفاقمة اثقلت كاهل الموظف فما بالك بنا نحن غير الموظفين».
أقدم باحث عن وظيفة
وسريع خريج جامعي تخصص تربية إسلامية من كلية التربية صبر جامعة عدن عام 2001م، ومازال عاطل عن العمل، ويُمنّي النفس منذ 18 عام بصبر جميل، بالحصول على وظيفة حكومية طال انتظارها. يقول: «السمسرة والوساطة وغياب القانون حال دون توظيفي حتى الأن رغم أنني من أقدم خريجي مديرية كرش بشكل عام، أنا مؤهل للوظيفة وبدون أي منازع ولكن الفقر وقلة ذي اليد وغياب الوساطة أبرز الأسباب حرماني منها».
ويضف ضاحكاً : “بعد أن ربت بيده على كتفي «خدمة الموظف تنتهي بأحد الأجلين: إما التقاعد أو تجاوز السن القانوني، ونحن على ما يبدو إن لم يبت مؤكد لنا بأنه سيطبق علينا أحد الأجلين قبل أن نتحصل على الوظيفة، التي أضحت ضربا من ضروب الخيال والأحلام المستحيلة تحقيقها لدينا نحن معشر الفقراء».
واضطر سريع إلى النزوح من قريته في أواخر مارس 2015م إلى منطقة الأعشار، بسبب الحرب بمعية أفراد أسرته ووالده الكبير الطاعن في السن وكل أهالي المنطقة للنجات بأرواحهم، ولم يتمكن وقت نزوحه من إخراج أي شيء معه.
مرارة النزوح
بدوره، قال المواطن توفيف مهدي سالم، وهو أحد أهالي المنطقة بعد أن أخذ جولة استطلاعية سريعة على المنازل المجاوره لبيته، «يا فرحة ما تمت»، عدنا ونحن نتحرق شوقاً لمنازلنا، ولكن وجدنا بعضها مهدمة الأسقف، أو الأركان، وبلا أبواب أو نوافذ، جراء القضف المتبال بين أفراد «المقاومة» وقوات «أنصار الله».
ويضيف : «بتنا غير قادرين على تحمل المزيد من المعاناة، نحن تشردنا ومنازلنا التي بنيناها بعد شق الأنفس دمرت بقذائق الهاون والهوز، المتساقطة عليها جراء القصف المتبادل في خلال الثلاث السنين الماضية».
وزار سالم منزله من منطقة نزوحه بالبساتين مديرية دار سعد بعدن، للاطلاع على أوضاعها قبل أن يعود بأهله إليها، غير أنه تفاجأ بمدى الأضرار الذي تعرضت له القرية.
ويستطرد قائلاً «أضطررنا لمغادرة القرية إلى منطقة البساتين بعدن، وهناك نعاني الأمرين منذ ثلاث سنين، حيث تكاليف العيش مضاعفة، وإيجار السكن وغيرها، وكل اعتمادنا على مرتب الوالد التقاعدي من السلك العسكري وليته يأتي باستمرار».
وشكى توفيق مهدي من «تجاهل» المنظمات دولية لمعاناتهم، وعدم تمكينهم من إيجار المساكن كغيرهم من النازحين بمنطقة صبر مديرية تٌبن، ومناطق النزوح كثيرة، مطالباً في الوقت ذاته الجهات المسؤولة بإعادة الإعمار بـ«سرعة النظر في قضية المنازل المهدمة ومساعدة الأهالي بإعادة بنائها وترميمها، ليتمكنوا من العودة إليها، والتخفيف من المعاناة التي يكتوون بنيرانها منذ بدء الحرب في مارس 2015م».
العربي