يودّع اليمنيون رئيسهم الشهيد بعد عامين زاخرين بالعطاء والثبات ومعادلات الانتصار، يودعونه وكلّهم عزم على مواصلة مسيرة الصمود والتضحية والفداء، وترجمة مشروعه “يد تبني ويد تحمي” بخوضهم معركتي الجهاد والبناء.
يحتشد الملايين لتشييع رئيسهم، تلازمهم مشاعر الغضب، وبداخلهم براكين ثائرة لا يخمدها سوى الثأر والاقتصاص من قتلة اليمنيين، ولن يقرّ لهم جفن إلا بردّ مزلزل وموجع بحجم هذا المصاب الجلل.
الظفر بحب الشعب
تميّز الرئيس الشهيد صالح الصماد الذي يعتبر رأس النظام في البلاد، بوجوده بين أوساط المواطنين، رامياً خلف ظهره كل المحاذير الأمنية، والظروف الاستثنائية التي تمرّ بها البلاد، ناهيك عن زياراته المستمرة وشبه اليومية، لجبهات القتال، وحضوره تخرّج الدفعات العسكرية على مرأى ومسمع طيران تحالف العدوان، وانخراطه مع القبيلة اليمنية وتدشينه التحشيد لرفد الجبهات بالرجال والعتاد والمال، وكذا متابعته المستمرة لوحدات التصنيع الحربي والاطلاع على جديدها، وإزاحة الستار عن منظومات جديدة تقلب معادلات المعركة وتربك العدو المتربص.
كل تحركاته تلك أثبتت للشعب أنه أمام رئيس وهب نفسه لأجل الشعب والوطن، جاعلاً من منصبه كرئيس منصةً للانطلاق، وأساساً قوياً وصلباً لركائز الصمود، وبناء حاضر الأمة بشقيه الخدمي والعسكري.
تجاهل الجريمة
أمريكا -المتهم الأول باستهداف الصماد-، حرصت منذ إعلان صنعاء استشهاد الرئيس، على غضّ الطرف عن هذه الجريمة، والضغط لإبقاء العالم صامتاً حيالها، تماماً كغضّها عن كل جرائم الحرب التي ترتكبها أدواتها في اليمن للعام الرابع.
لذلك كان من الطبيعي أن تولد أجنّة مشوهة لردود الأفعال الدولية والعواصم الغربية، تمثّلت في اتصال خجول لمبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن “مارتن غريفت” بوزارة الخارجية اليمنية، عبّر فيه عن اسفه لما جرى، واصفاً الشهيد الصماد بـ”رجل السلام”.
هذا الموقف الأممي يكشف عجز الأمم المتحدة عن ممارسة صلاحياتها بعيداً عن الضغوطات، ويقلل من فرص المبعوث الجديد في إيجاد حلّ سياسي في اليمن، طالما لم يكن لديه موقف واضح وصريح من استهداف رأس الدولة المزمع إجراء حوار معها للخروج بحل يوقف الحرب ودمويتها وتبعاتها.
إلى ذلك عزّى سيد المقاومة اللبنانية السيد حسن نصر الله، السيد عبدالملك الحوثي والشعب اليمني في استشهاد الرئيس الصماد، وتعزية مماثلة من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتعازٍ عدة من فصائل فلسطينية وجاليات وسفارات، جميعها تؤمن بالمقاومة وحتميتها لاجتثاث الغطرسة الأمريكية والصهيونية على البلدان الحرة.
فشل استخباراتي
بالعودة إلى عملية الاغتيال التي طالت الرئيس الصماد في محافظة الحديدة الساحلية غرب اليمن، فإن السعودية وقوى العدوان كانت تعلم وجوده في هذه المحافظة، خصوصاً بعد أن ألقى خطاباً في جامعة الحديدة وتمّ بثه مباشرة على الفضائيات الرسمية، لكنها لم تكن تعلم بالضبط مكان وجوده بعد الخطاب، ووجهة سير موكبه، حتى الطائرة التي رصدت الموكب نفسه واستهدفته بثلاث غارات لم تكن متأكدة تماماً إن كان الموكب المؤلّف من سيارتين هو موكب الصماد بالفعل أم لا، لكنها تفعل ذلك كما تعودت يومياً من قصف المدنيين بشكل عشوائي، وتستهدف كل ما تشتبه به بناء على معلومات العملاء على الأرض، وهناك مئات الحالات من الغارات التي استهدفت سيارات مواطنين في أكثر من محافظة طوال الثلاثة أعوام الماضية وراح ضحيتها مئات الأشخاص بينهم أسر بأكملها، وهذا النوع من الاستهداف العشوائي يؤكّد أمرين مهمين الأول أن لا قيمة للأرواح في قاموس السعودية والتحالف، والثاني أن أجهزة استخباراتها هشّة، تؤكد فشلها مراراً وتكراراً مع كل مجزرة.
تعامل يمني ذكي
إلى جانب ارتباك قوى تحالف العدوان وفشلها الاستخباراتي، تعاطت الأجهزة الأمنية والإعلامية لـ “أنصار الله” وأجهزة الدولة اليمنية والمجلس السياسي الأعلى مع العملية بذكاء شديد، فقناة المسيرة أعلنت فور استهداف الرئيس الصماد بأن العدوان شنّ ثلاث غارات واستهدف منطقة “الحالي” في محافظة الحديدة، وهو المكان الذي نفذت فيه عملية الاغتيال، دون أن تعطي مزيداً من التفاصيل، وأرسلت القناة مراسلها لتصوير المكان وبثت مشاهد للسيارات والمكان الذي تم استهدافه، هذا الإعلان ضرب ثقة التحالف في إنجاز العملية، خصوصاً بعد أن تلا ذلك خطوة أخرى من التعاطي الإعلامي الذكي، وذلك ببث مشاهد فيديو لزيارة الرئيس الصماد لمعامل تصنيع وتطوير الأسلحة، خلال ذلك تم إعداد عدة خطوات لتفويت فرص التحالف في استغلال الاغتيال لزعزعة الداخل اليمني، إذ تمكنت القيادة السياسية في صنعاء باختيار البديل للرئيس الصماد، وأجهضت بذلك أي مخططات لتحالف العدوان في هذا الإطار.
من حروف اليمنيين
رحل الرئيس الصماد، لكنه لم يرحل جباناً خوَّافاً، بل شجاعاً جسوراً وهو يؤدي دور البطولة في مسلسل الدفاع عن حياض هذا الوطن وكرامته. غادر الرئيس الحياة، لكنه لم يغادرها من فندق أو منتجع أو شاليه أو حتى كان يمضي عطلته الأسبوعية بين أولاده ومع أسرته في مسقط رأسه، بل كان يطوف الجبهات، ويقود حملة الحشد والتعبئة للاستنفار والنفير، وإظهار قوة اليمنيين واستبسالهم وصمودهم.
رحل القائد الشجاع المغوار بعد أن حفر اسمه في قلوب اليمنيين على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم، رحل الصالح الصامد بفجيعة شبيهة بفجيعة الرئيس الشهيد الحمدي حيث المقارنة كبيرة رغم اختلاف الواقع والظروف المحيطة بكلٍ منهما، رحل بعد أن أسَرَ القلوب حباً وملأ النفوس إعجاباً بحنكته وسياسته وإدارته وقوة شخصيته.
رحل الرئيس الذي تحدى العالم وقاوم استكباره وطاغوته، رحل حراً عزيزاً كريماً كما عاش مجاهداً مخلصاً تثني عليه الكلمات وتتذكر محاسنه القلوب وتلاحق قتلته اللعنات.
(الوقت التحليلي)