عندما يرمي الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، القارات الست خلف ظهره، ويغمض عينيه على مئات الدول حول العالم متجاهلاً تأثيرها وأهميتها، ليجعل السعودية قبلته ووجهته في زيارة خاصة بعد وصوله سدة الحكم في أمريكا، فإن هذا يعني الكثير والكثير في جوهر السياسة الاستراتيجية، ويكشف أكثر من قناع فيما يتعلق بأهداف الزيارة وتوقيتها آنذاك، ويبين ابتعادها عن سياسته في برنامجه الانتخابي الذي أوصله إلى الرئاسة، والذي وصف فيه السعودية بالبقرة الحلوب وأم الإرهاب.
تلك الزيارة أتت بعد نحو شهرين من لقاء جمع بين الرئيس الأمريكي، في البيت الأبيض ومحمد بن سلمان، الذي كان يومها ولي ولي العهد السعودي، تمخّضت عنه استثمارات سعودية في أمريكا بلغت قيمتها أكثر من 200 مليار دولار، وجميعها خُصّصت لتعزيز البنية التحتية الأمريكية.
هدف آخر
تلك الفاتورة الباهظة التي دفعتها الدبلوماسية السعودية لم تكن لغرض تلك الاستثمارات التي خرج بها اللقاء يومها، بل لهدف آخر تمّ ذكره أيضاً في توصيات اللقاء، وهو أهمية ما سماه الطرفان الأمريكي والسعودي «مواجهة إيران»، وهو ما أكده لقاء تلفزيوني مؤخراً لولي العهد السعودي، والذي قال فيه حرفياً: سوف نعمل لكي تكون المعركة لديهم داخل إيران، في إشارة لملامح الصراع الإقليمي الذي يتخذ من المنطقة العربية والشرق الأوسط أرضية وساحة لعملياته المختلفة.
ولاية أمريكية
إن ملايين المسلمين حول العالم باتوا يعرفون اليوم أن السعودية ليست أكثر من ولاية أمريكية تتلقى توجيهاتها من النظام المركزي الأمريكي، وتنفذ أجندة هذا النظام دون تحفّظ، وما يزيد الطين بلّة هو أن فواتير هذه الأجندة تدفعها السعودية نفسها لتجسّد أبلغ صورة للانبطاح والارتهان. والسؤال الأبرز الذي بات يؤرّق ملايين المسلمين هو غياب الدور السعودي في نصرة القضية الفلسطينية بالرغم من التأثير الكبير والواضح الذي ظهرت به السعودية خلال عدوانها على اليمن وهي تتلاعب بالقرار الدولي، وتشتري الرأي العام العالمي وتتحكم كلياً في صلاحيات الأمم المتحدة ومهامها ومخرجات جلساتها، وهو ما صرّح به أمينها العام السابق، بان كي مون، معلّقاً ومعلّلاً حذف اسم السعودية من قائمة الدول التي قتلت أطفالاً ومدنيين في الصراعات والحروب.
رقصة الاحتضار
احتفلت «الرياض» بزيارة الرئيس الأمريكي الذي هدّد بذبحها وسلخها، ونعتها بأم الإرهاب وبؤرته، وجعلت من هذا الحدث تاريخياً فارقاً، كونه سيلد «تحالفاً سنيّاً» تترأسه أمريكا لاستهداف مشروع الممانعة والقومية العربية، وتضييق الخناق على النظام السوري من تركيا شمالاً والأردن جنوباً، كل ذلك لوأد القضية الفلسطينية، تحت سقف مواجهة إيران في المنطقة العربية، وبتر أذرعها التي ترى أنها تشكّل خطراً على الكيان الصهيوني، ولا يمكننا إغفال الرسالة الأمريكية التي حاول الرئيس الأمريكي إيصالها من خلال تلك الزيارة وهو مسح الصورة العدائية التي رسمها للعرب والمسلمين بعد تسلمه السلطة، وكذا الدور الأمريكي «المعتدل» في التقريب بين المعتقدات وحوار الأديان، والذي حاول الرئيس الأمريكي تجسيده من خلال اختياره للسعودية والفاتيكان و”إسرائيل” في تلك الزيارة، كرموز تختزل الديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية، لكنّه في الوقت الذي دعا فيه إلى السلام بين الأديان، نفخ النار ليسعّرها بين الدين الواحد، ناقلاً الصراع من «عربي – إسرائيلي» إلى «عربي – عربي» و«وطني – وطني» داخل القطر العربي والإسلامي الواحد.
مقايضة رخيصة
إن العلاقة السعودية الأمريكية نشأت وما زالت على مبدأ «السلاح مقابل النفط»، إذ تُعدّ السعودية أكبر مستورد للأسلحة الأمريكية على مستوى العالم، وتنفق في ذلك نحو 13% من ناتجها المحلي، ولأن ملف التسليح كان قد شهد تدهوراً واضطراباً ملحوظاً في الآونة الأخيرة، فإنه بكل تأكيد حجز المساحة الأوسع في طاولة تلك الزيارة، بالإضافة إلى الرغبة الترامبية في رفد الخزانة الأمريكية بأعلى رقم من المال السعودي في ظل الأحداث الحالية وتداعياتها، والتي تُعدّ من أخصب المناخات لابتزاز النظام السعودي.
الأمر سيان
إن اليمنيين لا يجدون أي جديد فيما يتعلق بموقفهم وتوصيفهم للعلاقة الأمريكية السعودية، فهما في خندق واحد منذ بداية العدوان، تجمعهما المصالح والأهداف، وتوحدهما السياسات والمشاريع، وتشدّ على أيديهما الرغبة المفرطة في القتل والتدمير والتركيع والتجويع، فقط هذا ما لمسه اليمنيون منهما، في وقت يجدون أنفسهم في أمس الحاجة لصوت إنساني جريء، وكلمة حق منصفة لا يسكنها الخوف.
(الوقت التحليلي)