تحليل/ ميخائيل عوض/ وكالة الصحافة اليمنية //
في واقع الاحوال ومجرياتها، وفي التطورات التي تجتاح الاقليم والعالم، وبفعل انفجار ازمة لبنان العنيفة والتاريخية لاسيما بعد ثورة ١٧ أكتوبر ٢٠١٩، وبفعل غياب القوة اللبنانية المجتمعية القادرة على تشكيل كتلة تاريخية حاملة لمشروع اخراج لبنان من ازماته النوعية، تقع اطروحات وتطرح عناوين وشعارات من كل فج عميق؛ فالبعض يرى الحلول بحرب اهلية ويكثر التحذير منها، واخرون يرونها باستمرار الحال وادارة البلاد المنهارة باستراتيجية الفراغات بانتظار ما سيكون في الاقليم والعالم، وبعض اخر يطرح التقسيم كحل وكمخرج، فيما يستعيد البعض معزوفة الفيدرالية والكونفدرالية وتحت يافطات اللامركزية الادارية الموسعة والمالية وسواها.
اكتسب طرح اللامركزية الادارية الموسعة والمالية عزما عندما لوح بها الوزير باسيل في مناكفاته مع حزب الله عشية انعقاد الحكومة المستقيلة والفاقدة للشرعية الدستورية وبتهديد باسيل بفرضها امرا واقعا اقترب وتياره كثيرا من طروحات القوات اللبنانية التاريخية التقسيمية، وقد استند الدكتور جعجع لتحولات باسل وتياره وصعد كثيرا في خطاب قال فيه؛ اما ان تاتوا برئيس لنا ومنا ويلتزم برنامجنا او سنذهب الى الاقصى ولم نعد نطيق او نتحمل رئيس توافقي او محسوب على المقاومة وتحالفاتها…
هكذا يعج السوق السياسي بطروحات من كل شاكلة ولون وجذر هذه الطروحات واتساع مروحتها بما فيها العزف على اوتار التقسيم والكونفدرالية والفيدرالية يؤكد سقوط النظام الذي كان و تسبب بكل مأسي اللبنانيين وحروبهم وانقساماتهم واخطر منتجاته ما تعرض له لبنان واللبنانيون من عملية نصب واحتيال غير مسبوقة بسرقة ودائع اللبنانيين وحقوقهم وتعويضاتهم وامسهم ويومهم ومستقبلهم وقد وصف خبراء البنك الدولي الازمة بانها غير مسبوقة في تاريخ الشعوب والاولى بطبيعتها ومجرياتها بعد ان كان وصفها بالثالثة منذ ١٦٠ عاما، وما دفع بالاندبندنت لوصف المنظومة الحاكمة التي هي من نواتج النظام بانها اخطر عصابة مافياوية في التاريخ قبضت على لبنان ونهبته وافلسته.
في هذا الواقع وحيث ان الازمة اللبنانية ضاربة جذورها في قواعد ومرتكزات التأسيس عندما تقرر كيان ونظام بفعل مقص سايكس بيكو، وفي سياق منتجات الحرب العالمية الاولى ومخططات اوروبا الاستعمارية لتصنيع دول وامم بقياسات تحقيق مصالحها وحماية وعد بلفور لإقامة الكيان الغاصب المؤقت كمنصة استناد لحماية المصالح والنهب اللصوصي لخيرات وشعوب المنطقة والاقليم وجغرافيته الحاكمة، واخطر ما في المخطط ترسيم لبنان دولة بنظام ودستور تحاصص طائفي ومذهبي” كونفدرالية الطوائف”، يتقاسمه زعماء وعوائل وبيوتات احكمت قبضتها على الطوائف والمذاهب وتوارثت الزعامة، واتقنت فعل الخداع والمناورة والمتاجرة لتأمين حصصها فدخلت في صفقات نهب مع الاخرين وتأسست منظومة مافياوية تجمع زعماء الطوائف والمذاهب على مسلك التحاص المعطل للدولة الوطنية المركزية الواحدة، والمعطل لوحدة المجتمع والمانع للتطوير والعصرنة والساعي فقط الى تحقيق مكاسب ومصالح وزيادة حصص تلك العائلات والزعامات بذريعة حصص الطوائف والمذاهب، ومن جهة اخرى صمم النظام على هذه الشاكلة ليؤمن وظائف للكيان خدمية في الاقتصاد والاجتماع وفي السياسة، فصيغت الجغرافيا والنظام السياسي والنظام الاقتصادي لجعل لبنان الكبير مجرد “3اس” ساحة، وسبيل، وسوق.
وبواقع ان لبنان مساحة وعدد سكان وثروات كالنظم والجغرافية التي صنعت لتكون في خدمة المصالح الغربية يعجز عن التشكل دولة مركزية ومجتمع واقتصاد قادر على فرض السيادة والقرار الحر المستقل والتطور، استخدم كساحة لتصفية الصراعات الاقليمية والدولية وتعديل توازناتها وكلما تحققت مصالح القوى والدول المتصارعة في المسرح اللبناني كان يأت الحل مفروضا من الخارج تحت مسمى تسوية لا غالب ولا مغلوب يفرح بها اللبنانيون ويهيصون لها بينما ابطنت في طياتها تعميق وتعزيز هيمنة المنظومة اللصوصية المتماسكة ولم يغير اتفاق الطائف الذي انهى الحرب الاهلية المدمرة من الصيغة بل كرسها دستوريا وعزز سطوة المنظومة ودولتها الميثاقية بين لصوص الطوائف اسوة باتفاق الدوحة الذي كرسها وعززها تحت ستارة التعديلات في التوازنات، واذا كانت تسوية ال٥٨ بعد جولة عنف استوجبت محاولات امريكا لفرض ارادتها بإنزال عسكري فاشل عدلت توازنات المنظومة وحولتها الى شراكة مارونية سنية في ادارة وحماية النظام والمنظومة ثم جاء الطائف وعدل توازناتها لتصير سنية شيعية واتمها اتفاق الدوحة بتكريس الشيعية السياسية حامية للنظام والمنظومة بالتفاهم مع السنية السياسية وبغطاء ماروني، الا ان انفجار ١٧أكتوبر وضع حد نهائي للعبة تعديل التوازنات الشكلية في البيئات الطائفية الحامية والحاضنة للنظام الذي افلس وفقد كل عناصر ارتكازه واسناده، وما استمرار الازمة عميقة وعنيفة وانفجار النظام وهو في حاضنة الشيعية السياسية وانهيار السنية السياسية بانسحاب الحريرية وتقلص الدور النوعي والعددي للمسيحية السياسية وانهيار دورها وتعزز الانهيار بسبب الصراع بين كتله الاساسية لاسيما القوات والتيار بعد تقلص حجم ودور العائلات والاحزاب التقليدية الا تأكيدا حازما لانتفاء الاسباب والظروف وانكسار قواعد ارتكاز نظام المحاصة والافساد والنهب، فالمنطقي ان الشيعية السياسية عاجزة عن تامين النظام وحمايته بعد ان جرت محاولات تجميله في تسوية ٥٨ وفي الطائف وفي الدوحة ولم يعد من امكانية للترميم او اسناد النظام وتعويمه، وهذا ما تحقق ملموسا بنتائج الانتخابات الاخيرة وتوازنات البرلمان القلقة والافقار الشامل الذي بات سببا في تفجير تناقضات المنظومة واستحالة توافقها على حصص وتحاصص اصلا لم تعد تفيد في ظل واقع الافلاس والكارثة الاجتماعية الاقتصادية.
هكذا تترجم ازمة النظام الافلاسية في هيمنة حقبة الفراغات واتساع دائرتها، ووصول البلاد والنظام الى حالة الانهيار وربما زوال الكيان على ما قاله ماكرون الرئيس الفرنسي وردده كثيرون من الفاعلين الأوروبيين والامريكيين والإقليميين والمحليين.
والامر محقق في ما يعيشه لبنان والخطورة ان الثنائي الشيعي الوارث للنظام المفلس والمنهار لم يتنبه او أعمته المصالح والرغبات في تعييش النظام كيفما اتفق لحفظ المكانة والتحاصص الطائفي بستارة وذريعة التوافقية والتعايش واحترام النظام وتوازناته.
فالحق ان لبنان لم يعد ممكن ادارته كما في السابق بالفراغ ذلك لان الفرغات اصبحت شاملة فالفراغ في القصر الجمهوري والفراغ في الحكومة والفراغ في المجلس النيابي المعطل بتوازناته القلقة والاخطر فقد افرغت المنظومة بركة الودائع التي كانت تمول الفراغات سابقا وسرقت تعويضات المتقاعدين واموال الضمان والنقابات والبلديات واصبح الفراغ شامل وضرب بالقضاء وبالقطاع العام الوظيفي ويهدد المؤسسة العسكرية التي اقتربت كثيرا من الفراغ والانهيار وقد وعدت باربرا معاونة وزير الخارجية الامريكية بتركها للانهيار ليكون الفراغ عاما ولا احد يستطيع ملئه الا الفوضى المتوحشة وسيطرة عصابات واحزاب وجماعات على البلدات والمناطق واقامة امارات وسلطات امر واقع وفوضى الى ان يقضي الله امرا كان مفعولا في الاقليم والعرب وبلاد الشام المنتصبة امامها مهمة اعادة انتاج وهيكلة الجغرافيا والنظم بعد ان انهارت وظائف كيانات سايكس بيكو وانفجرت على نفسها وعجزت امريكا من الاستثمار فيها بمشاريع تقسيم المقسم واو فرض الفوضى المستدامة، فحقائق وحاجات الازمنة تفرض مهامها وحاجاتها فموت القديم وانفجار نظم وجغرافيا سايكس بيكو وفشل محاولات وراثته بالتقسيم او بالفوضى تصبح مهمة اعادة صياغة النظم وتكبير الجغرافية حاجة مادية تاريخية ستفرض نفسها عنوة ولو لم تدرك.
اذن؛ ازمة لبنان نوعية تاريخية فارقة غير مسبوقة وفرت وتوفر الفرصة الذهبية امام اللبنانيين لإنتاج حلهم الوطني الابداعي مادام توازن القوى الاقليمي والدولي وتوازنات المنظومة بناتج الصفر، الا ان اللبنانيين ثبت عاجزين ولم تتبلور قوة تقودهم الى خير السبل.
فلبنان يقع في ازمة مسدسة الاضلاع اذا ضربت امبراطورية عاتية ستؤدي لانهيارها.
والاضلاع تتحقق بالتالي؛
-ازمة وظائف كيان فكيانات سايكس بيكو وعد بلفور والتعاقد مع الاسرتين الوهابية والسعودية قد انتفت وظائفها واسبابها والقوى الحامية لها.
-ازمة افلاس نظام وصيغة تقادمت وتستحيل عملية ترميمها فقد جرت ثلاث عمليات ترميم استبدلت فيها حواضن وحمايات النظام من الطوائف الرئيسة وانتفت عناصر وقوة حماية النظام واسناده ولن تستطيع الشيعية السياسية تأمينه وقد ورثته مأزوم ومنهار.
-ازمة اقليمية تتجسد بإعادة تشكل الاقليم جغرافيا ونظم وفي المقدمة العرب وبلاد الشام.
-ازمة انهيار التوازنات الاقليمية وضوابطها وافتقاد الكيان الصهيوني لعناصر القوة والبقاء اخذا معه الكيانات والنظم التي انتجت لحمايته وتأمينه.
-ازمة اعادة تشكل النظام العالمي واو ولادة عالم جديد وارث للانكلو-ساكسوني المتداعي الاركان والمنحسر.
-ازمة النموذج الاقتصادي الرأسمالي في اعلى تجلياته في حقبة الليبرالية المتوحشة.
-ازمة تقادم قواعد ومنظومات وقوانين ضبط العلاقات وانماط الحياة البشرية وبين الدول والقارات والهويات بفعل التطورات التقنية الهائلة والثورة التكنولوجية الرابعة وزادت في مفاعيلها جائحة كورونا وما فرضته من انماط حياة وقواعد انتظام وبيئات عمل وحياة.
في هذه الحال تفهم الازمة اللبنانية وعجز المنظومة والمجتمع عن انتاج وصياغة حلول نوعية تخرج لبنان من دائرة التأزمات المتناسلة والانهيارية.
هل الكونفدراية او التقسيم او الفيدرالية الحل؟؟
نغمة التقسيم والكونفدرالية واخواتها رافقت لبنان منذ التأسيس وكان في الكتلة المسيحية من عارض تكبير لبنان بظم المقاطعات الاربع الى جبل لبنان وكانت مطالبة بلبنان الصغير، ثم تجددت في ازمة ال٥٨ وهيمنت وسيطرت واصبحت واقعا كونفدرالية بل فيدرالية وتقسيم غير معلن في الحرب الاهلية وقيام دولتين وادارتين وجيشين وحكومتين ومصرفين مركزيين الا ان الكانتونات انقسمت على بعضها وانفجرت بحروب الاخوة ففي المناطق الاسلامية الوطنية انفجر صراع وحروب شيعية شيعية وسنية درزية شيعيه وحرب المخيمات، وعلى ضفة المناطق المسيحية وقعت ١٢ انتفاضة في القوات وحربين مدمرتين بين الجيش والقوات اللبنانية ما وفر فرصة وشروط فرض الطائف وعودة القوات السورية لتأمينه وحمايته…
فأي عقل او منطق يفترض ان التقسيم والفيدرالية او الكونفدرالية لها قابلية التحقق بعد ان استنفذت في تجربة الحرب وحروب الاخوة والزواريب وخاصة اليوم ولبنان متروك بلا رعاية وبلا تمويل خارجي وافلاس داخلي.
والامر الاهم الذي لم يتنبه له الفيدراليون والكونفدراليون ودعات التقسم ان الصيغة اللبنانية والنظام اصلا تأسس كونفدرالية طوائف حكمت كل طائفة ذاتها وتقاسم زعمائها وتحاصوا فيما بينهم ومع زعماء الطوائف لنهب لبنان وشعبه. وفي الواقع للطوائف مدارس ومستشفيات وجامعات وشركات واملاك وقواعد ناظمه، فالفيدرالية محققه ومختبرة وقد اوصلت البلاد الى الافلاس والفوضى.
في واقع الحال اللبناني وتجاربه وحروبه وتسوياته ونظامه استنفرت مشاريع التقسيم والفدرلة اي امكانية لتتجسد حلولا او التشكل كمخرج من الازمات والعودة الى طرحها مجرد دغدغت احلام امراء الطوائف وعائلاتهم للتكسب وفرض الهيمنة على الطوائف لا اكثر.
اما ما الحلول والمخارج المتاحة؛
يمكن الجزم ان لبنان الصيغة والنظام والكيان السابق يعيش ايامه الاخيرة والخيارات بين الفوضى المتوحشة وتعرض الكيان للزوال، او انتخابات رئاسية تاتي بفرنجية رئيسا مرفقا بفريق عمل وبرنامج متكامل وعلى جدول الاعمال تغيير في وظائف الكيان والشروع في تعديلات جوهرية في بنية النظام وتوازناته، اي حل دستوري لتغيير بنيوي سلس وقد تقتضي الامور جولة عنف ك ٧ مايو ٢٠٠٨ اما انتخاب فرنجية او اي رئيس بلا فريق عمل وبرنامج فلن يحل الازمة بل سيفاقمها ويدفعها اسرع الى الانهيار والفوضى.
عفا الله على زمن كونفدرالية دولة الطوائف والمحاصة، وعفا عن مشاريع التقسيم البائدة والمجربة. وليس من مصير الا الحل الجذري او الفوضى والصلاة والسلام رحمه على لبنان الذي كان.