تتسارع الأحداث في الشرق الأوسط، بقواعد اشتباك جديدة، متجهة لتثبيت حقائق جديدة تراكمت سحبها في الأفق قبل أن تمطر على ساحة الطوفان.
ويبدو أن عملية “الوعد الصادق” التي نفذتها إيران بقصف الاحتلال الإسرائيلي قدمت الكثير من الإيضاحات حول مجريات الأحداث في المنطقة، بما يؤكد أن الولايات المتحدة استنفذت رصيد هيمنتها على المنطقة.
وفي حين تؤكد الوقائع، أن التمادي صهيوني بارتكاب مجازر الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، بدعم كامل ومفتوح من قبل واشنطن والحكومات الغربية، قد شجع الاحتلال الإسرائيلي على ارتكاب المزيد من الاختراق لقواعد الاشتباك وتجاوز الأعراف والمواثيق الدولية بضرب القنصلية الإيرانية في دمشق، وهو خرق يتخذ أبعاد مركبة لمخافة القانون الدولي، أولاً بانتهاك السيادة السورية، وثانياً بضرب القنصلية الإيرانية التي تعتبر وفق القانون الدولي أرض ذات سيادة تتبع الحكومة الإيرانية.
الاستناد إلى الداعم الأمريكي
وبالقليل من التمعن في ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، يمكن استنتاج أن حكومة نتنياهو أقدمت تحت شعور من نوع ما بالاطمئنان يستند إلى الدعم الأمريكي والغربي، إلى استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق وقتل الضباط والديبلوماسيين الإيرانيين. وهي خطوة ناجمة عن حالة من الزهو اكتسبتها حكومة الاحتلال الصهيوني، نتيجة غياب الردع والمسألة حول ما يحدث في غزة من جرائم لم يسبق أن شهد لها العالم مثيلا من قبل، اندفعت على أساسها إسرائيل لإجراء تقييم متهور، تؤكد أنها فقدت بوصلة الإتزان والقدرة على التقدير السليم لعواقب تصرفاتها تجاه العالم، مستندة إلى شعور بأن “إسرائيل” ستفعل ما تريد وعلى الولايات المتحدة وبريطانيا وبقية حكومات الغرب تحمل التبعات، بعيداً عن أي شعور بالمسؤولية.
تفكير ضيق بمساحات أوسع
ورغم أن الجميع يعرفون أن أي مواجهات ستكون بين الجمهورية والإسلامية وحلفائها في محور المقاومة من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى، بما يعني أن سقف الاحتمالات وما يجره من ويلات أكبر بكثير من المساحات الضيقة التي يفكر بها الإسرائيليون، إلا أن ذلك لم يشكل هاجساً لدى حكومة الاحتلال الإسرائيلي، التي ربما باتت تعتقد أن حرباً واسعه قد تجر كبريات دول العالم بشكل مباشر قد تمثل مخرجاً للاحتلال الإسرائيلي من معركة طوفان الأقصى والنتائج المخيبة التي جنتها من حربها البشعة على غزة، خصوصاً أن الولايات المتحدة لن تتردد لحظة واحدة في أن تكون الطرف الرئيسي خلال أي مواجهات قد يفتعلها الإسرائيليون مع إيران.
الاعيب الحاوي وتجنب المحاذير
خلال عقود مضت اعتمدت واشنطن على سلسلة من الاعيب الحاوي، للاحتفاظ بهيمنتها على العالم، وكان جزء كبير من تلك الألاعيب يرتكز، على عدم السماح للأمور بأن تتجاوز الخطوط الحمراء بحيث يتم السماح للخصوم بجس نبض القوة الأمريكية العسكرية، وإذا كانت واشنطن تريد القيام بأي عمل عسكري فعليها أن تهيء له الأجواء المناسبة، وتحشد له الحلفاء والامكانيات والإعلام، بما يضمن عدم خروج النتائج عن السيطرة الأمريكية، إلا أن الأمريكيين اصطدموا هذه المرة بحكومة إسرائيلية تضعهم أمام الأمر الواقع، ولاتترك لواشنطن أي خيارات يمكن على أساسها لواشنطن تجنب المحاذير حفاظاً على مكانة الولايات المتحدة.
فمنذ السابع من أكتوبر الماضي، عملت الولايات المتحدة على تلبية كل يمليه الاحتلال الإسرائيلي، لكن واشنطن لم تتمكن من التغلب على المقاومة الفلسطينية في غزة، وذهبت الأوضاع إلى ما هو أسواء بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي والحكومة الأمريكية والهيمنة الغربية بشكل عام، حيث فوجئت واشنطن بوجود حلفاء حقيقين للشعب الفلسطيني على الأرض دخلوا الحرب بشكل مباشر ضد الكيان الصهيوني، في معركة طوفان الأقصى، وهو أمر لم يكن بالمطلق ضمن حسابات واشنطن قبل معركة طوفان الأقصى. مما أدى إلى حدوث حالة شديدة من الارباك في المخططات الصهيونية في المنطقة، حيث لم تستطع واشنطن تلافي الضغط الناجم عن تدخل أطراف محور المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، رغم العمليات العسكرية والمجازفات التي اضطرت لها الولايات المتحدة ضد أطراف محور المقاومة في اليمن ولبنان والعراق، ورغم الوضع الحرج والفشل الفاضح التي تعاني منه واشنطن في حماية الاحتلال الإسرائيلي من عملية محور المقاومة، إلا أن الإسرائيليين لم يترددوا بالزج في الولايات المتحدة في أتون معركة جديدة عبر استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، وما نجم من استهداف “إسرائيل” بشكل مباشر لأول مرة من قبل طهران، الأمر الذي أضاف المزيد من المكاشفات حول حقيقة أن الولايات المتحدة أكثر عجزاً مما تبدو عليه وأن العالم قادم على حقبة نهاية الهيمنة الأمريكية وعالم متعدد الأقطاب.