تقرير خاص/ وكالة الصحافة اليمنية
ما أن حل العيد لابسًا ثوب الفرح لتنير أيامه بيوت المؤمنين، حتى بدت البهجة مرسومة في ملامح وجوه الأطفال العامرة بالبراءة، وهرع الناس يتبادلون التهاني بعبارات عربية مشهورة في عموم اليمن (من العايدين وكل عام وأنتم بخير).
ومع بزوغ شمس اليوم الأول من أيام عيد الأضحى المبارك، اتخذ الناس وجهات كثيرة فمنهم من زار أرحامه ومنهم من تفقد أهله ومنهم من قضى العيد بين أصدقائه ورفاقه، بينما هرع آخرون – أطفال ونساء وشيوخ – إلى أماكنٍ تذكرهم بالأمس القريب وتطلعهم على الغد المرتقب، وتشعرهم بالكثير من الفخر والكرامة.
رجال بذلوا أرواحهم في سبيل الوطن، فرخصت نفوسهم في أعينهم وعَظُم النصر، فانطلقوا في كل جبهات القتال يذودون عن حمى الوطن ويدفعون في سبيل ذلك ما يستطيعون، ولسان حالهم يهتف: “لن ترى الدنيا على أرضي وصيا”.
أكاليل الورد
لا تكاد ترى روضة من روضات الشهداء حتى تجد مئات الزوار من أسرهم وأصدقائهم وأهاليهم وعابري السبيل، يتلون على قبورهم آيات الدعاء ويضعون فوقها أكاليل الورود، حتى يخيل إليك أنها، بما تحمله من جمال، حديقة يقصدها الزوار للاستجمام بجوها البديع.
روضات الشهداء، بتناسقها الهندسي الجميل ومنظرها المكتسي بالخضرة تجذب انتباه كل زائر لها، وتوقفك للحظات، تستشعر فيها عظمة المكان وتتلو الدعاء وما تيسر من آيات الله قبل أن تنصرف ومشهد الروضة مرسوم في ذاكرتك، يذكرك بالتضحية بين لحظة وأخرى.
حديث مع شهيد
في روضة شهداء منطقة الجراف، التي أغلقت استقبال الشهداء بعد امتلاء مساحتها بقبورهم، تسكنك الطمأنينة حين ترى طفلا لم يبلغ العاشرة بعد، يتلو سورة الفاتحة على قبر والده الذي استشهد في “معركة النفس الطويل”، وهو يواجه التحالف الذي أعلن من البيت الأبيض عشية يوم أسود.
وهو يحدث والده باشتياق أسرته له، يعده أيضا بالسير على نهجه حتى تحقيق الهدف الذي خرج الأب من منزله مفارقا أسرته من أجله. يقول (أمير) 9 أعوام: “اشتقت لأبي كثيرا، لكن هو الآن عند رب العالمين، ما مات لأنه شهيد، والله قال لنا أن الشهيد يجلس حي”، وأضاف: “أبي كان بطل، قاتل عشان ما يجي الأمريكي واليهودي والسعودي يشلوا بيتنا ويأخذوا خواتنا، وأنا سأكبر وأسير بعده أقاتل الذي قتله”.
وأكمل (أمير) حديثه قائلا: “السعودي بيقتلنا لكنا.. وقتل أطفال خيرات – كثير – بصعدة، ولا أحد منهم عمل له شيء، أطفال، طلاب، بيدرسوا والطائرة جاءت قصفتهم وقتلتهم، وهو يشتي يقتلنا كلنا مثلهم”.
وقال أمير أن أمه تعلمه كل يوم أن الوطن أغلى من الروح وأننا حين نقاتل في سبيل الله والوطن فإننا ندرأ عن أنفسنا الذل والهوان، لكننا سنتجرعه إذا ما تخاذلنا وتكاسلنا في الدفاع عن أنفسنا وعرضنا وأرضنا.
ولدي الوحيد
وفي روضة شعوب بأمانة العاصمة، كان هناك شيخ قد حفر الدهر على وجهه أخاديد الكِبَر، يرش الماء على قبر ولده الوحيد الذي استشهد قبل شهرين في “معركة الساحل الغربي”.
لم تكن هناك أي ملامح للحسرة في وجه الرجل الذي فارق فلذة كبده الوحيد، بل كانت تعلو ملامحه نشوة العز وفرحة العطاء. يقول والد الشهيد (أبو عبدالله): “أنا قدمت ولدي الوحيد وأنا راضي بما كتب الله له، فالله هو الذي أعطاه لي، وهو الذي ابتلاني بأخذه، وما عليّ سوى الصبر والدعاء له ولكل الشهداء بأن يجزيهم الله خير الجزاء، لما قدموا في سبيل الدفاع عنا وعن وطنهم”.
وأضاف والد الشهيد قائلا: “ليت أنني أستطيع الذهاب إلى الجبهة لأقاتل، فكما ترى لم تعودا رجلاي قادرتان على حملي كثيرا”.. وأردف بالقول: “كنت قد عزمت على تزويج ولدي لكنه فاجأني حين طلب مني أن أعطيه السلاح ليذهب مع أصدقائه إلى الساحل الغربي لمواجهة قوات التحالف ومسلحيهم من المرتزقة.. قبلها لم يكن يخطر على بالي أنه سيذهب للجبهة، هو شاب ذكي وطموح وكانت أحلامه أكبر من عمره بكثير، لكن ذلك لم يمنعني من السماح له بالذهاب ومشاركة زملائه المعركة، رغم أنه الولد الوحيد لي، وليس لي غيره سوى طفلة”.
جاءني حي فجئته ميتا
وعن وجوده ثاني أيام العيد في روضة شعوب قال الوالد: “جئت أعيّد على ابني، كان يجيئني كل عيد يقبل رأسي وهو على قيد الحياة، واليوم أنا من يأتيه وسآتي إليه حتى يتوفاني الله”.
السنوات الأخيرة التي مرت على اليمنيين كانت قاسية بما يكفي لتنغص أفراح أعيادهم فقد أكلت الحرب ما يزيد عن 60 ألفا بين قتيل وجريح، وتكاد تكون الحرب وصلت بضررها إلى كل بيت يمني.