في غزة، لا ينجو حتى من يحمل الكاميرا بدلاً من البندقية.. في مدينة منكوبة أنهكها الحصار وأحرقتها النيران، ويشوبها الدمار في الأرجاء، يجلس الصحفيون في خيام مؤقتة، يكتبون تحت القصف.. مأساة إنسانية لم يشهد لها العالم مثيل، يلتقطون صوراً لآلام شعبهم، ويحلمون فقط بإنقاذ الحقيقة من تحت الركام.
هناك، في خيمة صغيرة نُصبت قرب مستشفى مجمع ناصر الطبي في خان يونس، جلس أحمد منصور.. لم يكن يحمل سلاحاً، بل قلماً وعدسة.
كان صوته أحد آخر الأصوات التي ما تزال تحكي للعالم عن المجازر المنسية في غزة.. لكنه لم يُكمل الحكاية.
قذيفة صهيونية أنهت الفصل الأخير من حياة أحمد، لكنها كتبت بداية فصل جديد من وجعٍ لا يُنسى… قصة صحفي احترق جسده، لكن كلمته بقيت.
ثمن الحقيقة
كان أحمد يجلس خلف طاولته، في تلك الزاوية من خيمة الصحفيين داخل مجمع ناصر الطبي في خان يونس، يُراجع ما تبقّى من بطارية حاسوبه المحمول، ويحاول أن يكتب خبراً آخر عمّا يحدث خارج جدران المستشفى، حيث الموت يحوم كعادته.
كان يعرف – كما كل من في الخيمة – أن المكان لم يعد آمناً، وأن قذيفة قد تهوي في أي لحظة، لكن لم يكن هناك مكان أمن في القطاع المنكوب.
ولم يكن هناك متّسع للهرب، ولا وقت للتردّد.. كانوا هناك لينقلوا الحقيقة.. فقط الحقيقة.
في لحظة خاطفة، اخترقت السماءَ نارٌ. سقطت القذيفة، وانفجر كل شيء.
وفي لحظة رعب لا توصف اشتعلت الخيمة.. الصراخ، الدخان، اللهاث، يحيط بكل شيء.
لكن الكاميرات كانت لا تزال تدور، وتظهر مشاهد مصورة مروّعة لحظة إصابة الزميل أحمد منصور، بينما كانت النيران تحيط بجسده وهو جالس خلف طاولته، في مشهد يُجسّد الشجاعة والثبات في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية.
وبعضها وثّق المشهد الذي لن يُنسى: أحمد، وسط اللهب، جسده يحترق، لكنه لم ينهض.. لم يركض.. ظل جالساً على كرسيه، يواجه الموت بثبات لا يملكه إلا من وهب قلبه للحقيقة.
كان الصحفي أحمد منصور وسط النيران يُجسّد كبرياء الكلمة وقوة الصورة، ظل شامخاً إلى أن غابت ملامح جسده بفعل الحريق.. كأنّه يعلم أن هذه لحظته الأخيرة، فآثر أن يغادرها شامخًا، كما عاشها.
غابت ملامحه تحت ألسنة النار، لكن بقيت صورته محفورة في ذاكرة كل من شاهده.. صحفيّ، يحترق جسده، لكن روحه أبَت أن تنكسر.
أُصيب في هذه الجريمة عدد من زملائه الصحفيين الذين كانوا في الخيمة ذاتها: محمد فايق، أحمد أغا، حسن إصليح، علي إصليح، عبدالله العطار، إيهاب البرديني، ماجد قديد، ومحمود عوض. كانوا جميعهم شهودًا على الحكاية التي كُتبت بالنار.
الإعلام الفلسطيني المقاوم
الصحفي أحمد بلفظ انفاسه الأخيرة في المستشفى
اليوم الثلاثاء، اجتمع صحفيو قطاع غزة عند أطلال الخيمة المحترقة.. وقفوا بصمت، ثم رفعوا كاميراتهم نحو السماء.
لم تكن وقفة احتجاج فقط، بل كانت قسمًا جديدًا على مواصلة الطريق، الطريق الذي سار عليه أحمد وكل من سبقه من الصحفيين الشهداء.
وعلى الرغم من المخاطر.. يواصل الصحفيون الفلسطينيون أداء رسالتهم، مؤمنين بأن الكلمة أمانة، والصورة سلاح، والصوت لا يُكسر حتى لو سقط الجسد أو أحترق.
حصيلة الكلمة
211 صحفيًا استشهدوا منذ بدء العدوان على قطاع غزة، هذا ما أعلنه المكتب الإعلامي الحكومي في غزة.. رقم ثقيل، موجع، لكنّه لم يُطفئ صوت غزة، بل زاده وضوحًا.
أحمد منصور لم يكن مجرد رقم في قائمة شهداء صاحبة الجلالة.. كان قصة كاملة، وفصلًا نقيًا من حكاية الإعلام الفلسطيني المقاوم.
رحل أحمد، لكن صوته ما زال يدوّي في كل صورة تُلتقط، وفي كل كلمة تُكتب من غزة أرض النار.