في مساء هادئ من ليالي صنعاء، وتحديدًا في حي شعب الحافة الشعبي والمكتظ بالسكان، كان أطفال الشيخ صالح عبدالله السهيلي يلعبون.. ضحكاتهم تملأ أرجاء المنزل.. الطفل صارم، بعمره الصغير الذي لم يتجاوز الثامنة، كان يلعب بشغف وفرح مع شقيقه الأكبر جلال (18سنة) العائد لقضاء إجازة العطلة الدراسية مع والديه وإخوانه، بينما تتبادلان جيداء (6سنوات) ولجين (10سنوات) الضحك وهما تجهزان “عشاء الدمى”.. لم يكن في بال أحدهم أن هذا المساء سيكون الأخير.
كانت لحظات اللعبة الأخيرة في حياة الطفل صارم السهيلي وإخوته، قبل أن تمزّق صواريخ أمريكية صمت الليل البهيم وتحيل منزلهم في حي شعب الحافة بمديرية شعوب، إلى كومة من الركام والأشلاء.
بداية الفاجعة
في تمام الساعة الحادية عشرة ونيف، من ليل (الأحد-الإثنين)، انشقت السماء عن صواريخ أمريكية دقيقة التوجيه، لكنها عمياء عن الإنسانية.. انهمرت على منزل الشيخ صالح عبدالله السهيلي دون سابق إنذار، فهوت الأسقف على الأطفال وأمهم، وتحوّلت ألعابهم إلى شظايا، وتحولت ضحكاتهم إلى صمت أبدي.
وفي صباح اليوم التالي، اجتاح فيديو مروّع منصات التواصل الاجتماعي: أب يبكي بحرقة، يحتضن جثمان طفله الصغير، ويناديه باسمه: “صارم… اصحى يا بني… قوم العب زي أمس”.
ذلك الرجل هو الشيخ صالح السهيلي، الذي فقد في لحظة أربعة من أبنائه: صارم، لجين، جيداء، وشقيقهم الأكبر جلال، وزوجته التي أصيبت بجراح مميتة ولا تزال ترقد بالمستشفى بين الحياة والموت.
مشهد الوالد المفجوع، وهو يجهش بالبكاء فوق أشلاء جثمان طفله صارم، أيقظ مشاعر الغضب والحزن لدى الآلاف، ممن شاهدوا الفيديو المتداول للحظة وداع لا تشبه أي وداع.
كانوا فقط يلعبون
دمية الطفلة جيداء
“لم يكن في البيت سواهم برفقة والدتهم.. كانوا فقط يلعبون”، قالها الأب المكلوم بحرقة ونبرة ألم، وهو يرفع يده نحو أنقاض منزله الذي لم يتبقَّ منه سوى الركام شاهداً على الجريمة النكراء.
أعلن البنتاغون لاحقًا أن الغارة استهدفت ما وصفه بـ”قائد صواريخ حوثي”، لكنه أقر بعدم التأكد من مصيره.
أما الحقيقة، فهي جريمة مكتملة الأركان راح ضحيتها أربعة أطفال لا علاقة لهم بأي سلاح أو صراع، كانوا فقط يلعبون داخل منزلهم.
نعم.. الغارة، التي أعلن البنتاغون لاحقًا أنها استهدفت “قائد صواريخ الحوثيين”، لم تترك خلفها سوى أربعة أطفال ودماء وأشلاء متناثرة على أحجار بيتهم المدمر.
“كانوا يلعبون.. لم يكن هناك قائد صواريخ، فقط أطفال”، قالها جيران الشيخ صالح وسط أنقاض بيته، في شهادة موجعة تلخّص عبثية الحرب وازدواجية موازين العدالة.
ضحايا الجبروت والطغيان
أطفال ضحايا العدوان
لم تكن عائلة السهيلي وحدها التي دفعت ثمن الجبروت والطغيان الأمريكي.. بحسب وزارة الصحة في صنعاء، فإن الغارة أسفرت عن مقتل 6 مدنيين.. 4 منهم أطفال، وامرأتان، وإصابة 25 آخرين من الجيران، من بينهم 11 طفلاً وامرأة.
العاصمة صنعاء بأكملها اهتزت من هول الضربة، فيما بقيت رائحة البارود والموت تطغى على كل شيء في الحي المستهدف.
الناس هناك لم يكونوا في ساحة معركة، ولا في محيط عسكري، بل في حي سكني مكتظ، كل ما فيه يدل على حياة بسيطة.. محلات صغيرة، أزقة ضيقة، أطفال يلعبون في الأزقة وداخل بيوتهم، وأمهات ينتظرن عودة الصغار للعشاء.
لكنّ الطائرات لا تفرّق بين من يحمل سلاحًا ومن يحمل لعبة، بين من يخطط لهجوم، ومن يخطط لحصة واجب مدرسي في الغد.
النهاية.. لم تسعفهم البراءة
حقيبة لجين
صارم، لجين، جيداء، وجلال.. أسماء تحوّلت في لحظة إلى شواهد على مأساة تُضاف إلى سجل العدوان الذي طال كل شيء في اليمن، ولم يترك للطفولة مكانًا آمنًا.
في نهاية المساء الأليم، لم تنجُو سوى الحكاية… حكاية صارم الذي أحب السيارات الصغيرة، وجلال الذي أراد أن يصبح مهندساً في الميكانيكا، ولجين التي تحب الرسم وتحفظ أناشيد المدرسة، وجيداء التي كانت تخبئ دمية الدب في خزانتها والعلكة في حقيبتها.. رحلوا جميعًا، ولم تسعفهم البراءة.
وفيما لا تزال رائحة الدم والرماد تخيّم على المكان، لا تزال الأسئلة تبحث عن إجابات:إلى متى ستظل أمريكا عشوائية في قرارتها وقصفها على الأبرياء؟ ومن يُعيد لصارم وإخوته أحلامهم الصغيرة؟