عبدالكريم مطهر مفضل/وكالة الصحافة اليمنية//
في غزة الأرض المحروقة والشعب المنسي، حيث يُولد الأطفال تحت القصف، وتُختصر الطفولة في صرخة قصيرة، قُصّت حياة رضيعة على عَجَل، برأس صاروخ، وبذراع مبتورة.. لم تتعلّم الحبو، ولم تُكمل نغمتها الأولى، قبل أن يُطفأ صوتها تحت ركام منزل قصف في عتمة الليل البهيم.
في السطور التالية، نسرد لكم تفاصيل قصة استشهاد رضيعة جديدة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة في بقعة تباح فيها كل شيء نتيجة إجرام وحوش نازية شجعها الصمت الدولي والتخاذل العربي والإسلامي.. من لحظتها الأولى حتى لحظة الفاجعة.. التي تلخص وجعًا لا يمكن اختصاره في كلمات وسطور.
رضيعة لم تُكمل شهرين من عمرها، وُلدت في الحرب وماتت تحت ركامها، لم تعرف الحبو، ولم تُتم نغمتها الأولى، لكنها أصبحت رقمًا جديدًا في قائمة طويلة من الأطفال الشهداء، الذين لم يسعفهم الحليب ولا حضن الأمهات.
حياة قصيرة.. تحت القصف
57 يومًا فقط، هي كل ما عاشته ابنة الحرب الرضيعة “شام محارب”، التي اعتادت منذ لحظة الأذان في أذنها أن تستمع لصوت الانفجارات بدلاً من حكايات الأم وترانيم النوم، كانت تهتز مع كل قصف، تبكي وتنتفض، حتى جاءت اللحظة التي توقف فيها كل شيء… حتى دمعتها الأخيرة.
قبيل الفاجعة، كانت تُلوّح بذراعيها الضعيفتين، كما تفعل العصافير قبل الطيران تطلب شيئًا من أمها التي لم يكن في صدرها حليب، بفعل الجوع، والخوف، والحصار.
كانت “شام” تجوع، والأم لا تجد ما تأكله.. فالغذاء المحجوز تعفن في صحراء سيناء المصرية، تُمنع قوافله من العبور، بقرار من الاحتلال وتواطؤ غربي وخنوع عربي.
ذراع الرضيعة الذي كان يرفرف كجناح عصفور صغير في حضن أمها، لم يتحمّل طغيان آلة القتل، فكان القرار السريع من قوات الاحتلال بإسكاته بصاروخ.
لم تكن تعرف “شام” أن كل ما حولها هش، حتى حضن أمها.. ففي صباح الخميس، العاشر من أبريل، وبينما كانت والدتها تحاول تهدئتها بصدرها شبه الفارغ من الحليب، سقط صاروخ على منزل نزحتا إليه شام ووالدتها في حي الشجاعية شرقي مدينة غزة، بحثًا عن مأوى أكثر أمانًا من بيت العائلة الأول، لكن الأمن في غزة.. وهم.
صرخة بين الركام
سقط الصاروخ، اهتزّ الحي.. اختفى المنزل، سادت لحظات من الصمت، لا صراخ، لا بكاء… فقط غبار كثيف، وركام، وانتظار يائس.
مرت ساعة… ثم أخرى، ورجال الدفاع المدني يزيلون الحجارة بأيديهم، لا جرافات، لا معدات كافية.. فجأة، صرخة أم مفجوعة من تحت الأنقاض: “خذوا بنتي! بنتي بإيدي… خذوها!”
تمكّن طواقم الدفاع المدني من انتشال والدتها مصابةً بجراح متوسطة، لكن ما في يدها لم تكن “شام”، بل حجرٌ عالق في قبضتها تشبّثت به يدها من شدة الإصابة والصدمة، كانت ترفع الصخرة ظناً منها أنها أبنتها “شام”، لم تدرك أن جسد “شام” لم يعد في حضنها، بل كان يبعد 5 أمتار عنها، بلا صوت، بلا نفس، ممددة، بذراع مبتورة، وجسدٍ لم يعد يعرف الألم.
مستشفى بلا سرير.. وحياة بلا أمل
عُثر على “شام”، بذراع مبتورة، ووجه بلا ملامح حية، وجسد يحمل كسرًا في الجمجمة، ونزيفًا داخليًا، وكسورًا متعددة.
أسرع والدها إلى المستشفى المعمداني، يركض بقلبه قبل قدميه، يسأل عن سرير، عن طبيب، عن فرصة، ولو ضئيلة.
لكن كل الأسرة ممتلئة.. كل غرفة في العناية المركزة مزدحمة بأطفال ونساء، بحروق وكسور، بأنين لا يتوقف.
قال له الطبيب بما لم يحتمله قلبه: “لا مكان لها، ولا إمكانيات لإنقاذها.”
فأدرك الأب أن طفلته، التي كانت يومًا تنتفض من صوت القصف، لن تتحرك بعد اليوم.
كان عليه أن يودّعها في الممر.. أن يُسلم جسدها الصغير للموت، كما سلّمه القصف من قبل للركام.
وداع موجز.. وقصة طويلة من الألم
ارتقت “شام”، ورحل معها خمسة أرواح من العائلة ذاتها، وأُصيب 16 آخرون.
تحول المأوى الذي لجأت إليه الأم وابنتها إلى قبر، والذراع الصغير المبتور صار شاهدًا جديدًا على جرائم لا تتوقف، وشاهداً على ما لا يجب أن يُنسى.
في غزة، حيث لا حضن آمن ولا حليب ولا دواء، غابت “شام” عن الحياة دون أن تنال فرصة للنجاة، أو حتى البكاء الأخير.
هكذا تنتهي حكاية “شام، رحلت كما ولدت، وسط العجز.. لا حضن يضمها، ولا سرير يستقبلها، ولا نظام صحي قادر على إنقاذ حياة رضيعة بهذا الحجم الصغير.
رضيعةٌ لم تُمنح وقتًا لتضحك، ولا مكانًا لتحبو فيه، ولا حضنًا يحميها من صواريخ الاحتلال.. تاركة الكثير من أسئلة الحسرة هل كانت تشبه فراشة صغيرة؟ هل كانت ستحبو قريبًا؟
لا أحد يعرف… فقط العدوان كان أسرع من كل أحلامها الصغيرة وأحلام والديها.
من يُجيب؟