عبدالكريم مطهر مفضل/وكالة الصحافة اليمنية//
كان مساءً هادئًا على غير عادة مدينة تعوّدت على أصوات الطائرات أكثر من زقزقة العصافير.. في ميناء رأس عيسى، حيث تختلط رائحة الملح بوهج اللهب، لم يكن أحد يتوقع أن يتحوّل موقع مدني لخزانات الغاز إلى مسرح لمجزرة موثقة بالصمت الدولي.
ووسط هدير العمل وروتين المهنة، وبين أنابيب الغاز وخزانات الوقود، كان المهندس، خالد عبدالله محسن عوض، يمارس مهمته اليومية: الحفاظ على منشأة مدنية تخدم ملايين اليمنيين، وتأمين حياة عشرات العمال.
لكنه لم يعلم أن ذلك المساء سيكون الأخير، وأن الصواريخ الذكية اختارته هدفًا… لا لشيء، سوى لأنه ظل مخلصًا لوطن وشعب يُحاصر من البحر والبر والجو.
انفجارات في قلب منشأة مدنية
في تمام الساعة التاسعة من مساء الخميس الماضي، كان المهندس خالد يتفقد خطوط التغذية داخل منشأة الغاز في ميناء رأس عيسى بمحافظة الحديدة، كعادته كل مساء.. يراجع بيانات التشغيل، ويطمئن على إجراءات السلامة، ويتأكد من سلامة فريقه العامل.
لكن ذلك المساء لم يكن ككل الأيام.. ففي لحظة خاطفة، دوّت انفجارات هائلة، وتحوّل المكان إلى جحيم مشتعل.
صواريخ أمريكية استهدفت منشأة مدنية، لا يتواجد فيها سوى خزانات للوقود والغاز، وقلوباً عاملةً بالكاد تؤمّن لقمة العيش لعائلاتها المنهكة من الحرب والحصار طوال عشر سنوات عجاف.
شهادة من تحت الركام
“سقط المهندس خالد بيننا… لم يعد يقف، لم يعد يتحدث”، هكذا قال أحد العمال الناجين، وهو يحاول كبح دموعه.
وأضاف بصوت مرتجف: “كان حريصًا علينا أكثر من نفسه… قبل الضربة بدقائق، طلب منا مغادرة أحد الخزانات لتناول العشاء، أنقذنا.. لكنه بقي وحده في وسط الجحيم”.
خالد.. المهندس الذي اختار البقاء
خالد، ابن محافظة حضرموت، لم يكن مجرد موظف.. كان من أوائل المهندسين الذين أصروا على البقاء والعمل رغم الحرب.. رفض عروضاً عديدة للهجرة، متمسكًا بمقولته الدائمة: “بلدي أولى بي”.. قالها مراراً، حتى وهو يعلم أن عمله في منشأة مدنية لم يعد آمناً في زمن “الصواريخ الذكية” والقرارات “الترامبية” المتهورة.
سبق أن شغل خالد منصب نائب مدير إدارة المنشآت النفطية للشؤون الفنية، ونائب مدير الإدارة الفنية لشركة النفط في الحديدة، قبل أن يُكلّف في 2021 بإدارة شركة الغاز بالمحافظة.
ابتكر المهندس خالد خطة توزيع دقيقة لمادة الغاز المنزلي ساهمت في التخفيف من أزمة الغاز في البلاد.
230 شهيداً وجريحاً… والعدّاد لم يتوقف
لم يكن خالد وحده.. 80 شهيداً، و 150 جريحاً في حصيلة غير نهائية، كانوا عمال نظافة، وحراس أمن، وفنيين، وسائقي شاحنات بينهم 32 سائقاً من أبناء محافظة عمران ينتظرون تعبئة شاحنات الغاز لنقلها إلى محافظتهم حسب الحصص التي وضعها المهندس خالد.. جميعهم مدنيون، لا يعرفون من الحرب إلا آثارها على موائدهم الخاوية.
من المهندس خالد إلى معاذ.. أسماء لا تُنسى
من بين الجثث المحروقة، كانت جثة عامل يُدعى “معاذ سيف”، شاب في الخامسة والعشرين، خرج من منزله ليلاً على عجل لأداء ورديته.
ترك وراءه أمًا مريضة وزوجةً حاملاً في شهرها الأخير، وعاد إليهما محمولًا… جثة محروقة.
جريمة حرب بصمت دولي
استهداف منشآت الطاقة في بلد يعاني ثلثا شعبه من الفقر والجوع، ليس إلا جريمة حرب مكتملة الأركان، وإرهابًا ممنهجًا ضد المدنيين بكل ما تعنيه الكلمة.
وما حدث في رأس عيسى لا يمكن تبريره كخطأ، أو استهداف عرضي.. الموقع معروف دوليًا، مدني بالكامل، وتخضع جميع السفن الواصلة إليه لرقابة أممية، ويعمل تحت إشراف شركة وطنية، ولا يوجد داخله أي منشآت عسكرية.
فهل أصبحت خزانات الغاز أهدافًا استراتيجية؟ أم أن العجز عن ردع صنعاء في البحر، دفع واشنطن إلى معاقبة المدنيين على اليابسة؟
ترامب الذي ظهر منتشياً قبل أسابيع وهو يستعرض مقطع فيديو قُتل فيه مدنيين أبرياء في تجمع قبلي، بمحافظة الحديدة المنكوبة أمريكياً احتفالاً بعيد الفطر المبارك، زاعماً أن قواته قضت على كافة رؤوس أنصارالله، وعلى القدرات العسكرية لقوات صنعاء ها هو اليوم يستهدف خزانات الغاز والنفط وربما يستهدف غداً براميل القمامة بعد أن كشفت الأيام زيف كلامه وهزيمة وفشل وعجز قواته في البحر الأحمر.
الحديدة تحترق… والعالم أعمى
مدينة الحديدة، التي كانت تُعرف بـ”رئة اليمن وسلّته”، تُذبح ببطء، ومنشآتها الحيوية التي تخدم ملايين اليمنيين تُستهدف بلا توقف، نهاراً وفي عتمة الليل البهيم، بينما تكتفي الأمم المتحدة بـ”القلق العميق”، وتلوذ الدول الكبرى بالصمت المريب.
كالعادة، مرت هذه الجريمة بصمت دولي مريب.. لا بيانات إدانة من المؤسسات الأممية، ولا مواقف صارمة من العواصم التي تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان.. أما الضحايا، فليسوا سوى أرقام في نشرات الأخبار، وأشلاء بين ركام خزانات الغاز.
خالد… لم يكن مجرد رقم
المهندس خالد الذي عرف بخبرته ومهنيته العالية، ويُعد من الكفاءات الهندسية الوطنية، شكّل رحيله.. كما رحيل العشرات من زملائه، خسارة إنسانية ومهنية مضاعفة، في بلد يحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى أيدي بنّاءة، لا صواريخ مدمّرة.
رحل بصمتٍ يليق بالكبار، لكنه لم يرحل وحده.. رحلت معه أسطوانة غاز كانت ستُسلّم لمواطن يتضور أطفاله جوعًا، أو إلى دار للأيتام، أو لمصحة تُعالج المرضى في الظلام.. رحل معه كابل كهرباء كان يُصلحه قبل يومين، ومخطط لتوسعة المحطة كان يحلم بتنفيذه بعد انتهاء العدوان.
رحل خالد، لكن اسمه سيبقى محفورًا في ذاكرة اليمنيين، كأحد الذين ظلوا واقفين، صامدين، حتى الرمق الأخير.
رحلوا… لكنهم لم يغيبوا