المصدر الأول لاخبار اليمن

مجزرة “الخبز والدم” في صنعاء .. حين يُقتل الفقراء وهم يطاردون الحياة

عبدالكريم مطهر مفضل/وكالة الصحافة اليمنية//

في أحد أحياء صنعاء الفقيرة، وبينما كان الناس يتهيأون لموعد العشاء والنوم، دوّى فيه انفجار صاروخ أمريكي، ما حول فرنًا خيرياً إلى كتلة من نار ودم.. لم يكن الشاب فؤاد النجار سوى واحد من عشرات القتلى، لكنه كان يحمل حكاية كاملة عن شعب يموت لأجل كسرة الخبز.

يعيل عائلة تتنفس بالكاد

فؤاد خليل النجار (19 عامًا)، موظف بسيط في محكمة بني حشيش بمحافظة صنعاء، لم تكن الحياة كريمة معه، فاضطر للعمل على دراجته النارية في توصيل الطلبات بعد الدوام الرسمي، سعيًا إلى دخل إضافي.

راتبه مقطوع مثله مثل كل الموظفين الحكوميين التي حرمتهم حكومة التحالف من رواتبهم، صعبت عليه إعالة أسرته الصغيرة: أمٌّ مُسنة، أخٌ مصاب بالتوحد، وزوجة شابة لم يمضِ على زواجه بها أكثر من سبعة أشهر.

ورغم العجز والفقر، لم يستسلم فؤاد ويجلس في الزاوية.. كان يطوف شوارع العاصمة بدراجته النارية، يحاول أن يربح ما يكفي لسد رمق أحبّته، ولو بالقليل.

الخبز الأخير.. والنهاية

في ذلك اليوم، جاءه مالك المنزل يطالبه ببقية الإيجار، لم يقبل المالك المبلغ القليل الذي جمعه فؤاد، فخرج الشاب مجددًا يكمل ما تبقى، حالمًا بعودة خفيفة على أهله، ولو بوجه مرتاح.

كانت شمس الأحد تميل إلى الغروب، حين امتطى فؤاد دراجته النارية وخرج من بيته المتواضع شمال صنعاء، وحين تمكن أخيرًا من جمع المبلغ، مرّ على فرن الجرادي في سوق فروة الشعبي، أملاً في الحصول على بعض الخبز المجاني، كما اعتاد الفقراء هناك.

لكن طائرة شبح أمريكية كانت أسرع منه إلى القدر.. لم يكن يدري أن رحلته القصيرة من أجل أرغفة، ستكون الأخيرة.

عند باب الفرن، لحظة الوصول لمخبز الجرادي، تحوّلت إلى لحظة رحيل ووداع أبدي.. صاروخ “ذكي” أطلقته طائرة شبح أمريكية استهدف مدخل الفرن بدقة، حوّله إلى رماد.. لم يُعثر على جثة فؤاد، بل على ما تبقى منها – فقط قطعة صغيرة من لحمه بحجم كف – رفعها أحد المسعفين للسماء باكيًا: “لم يعد من سائق الدراجة إلا هذه”.

الفرن الذي أطعم الفقراء.. صار مقبرة لهم

لم يكن “مخبز الجرادي” مجرد فرن تجاري، بل نافذة يومية للأمل لأسر لا تملك قوت يومها في بلد تحاصره الأزمات، ويفتك به الفقر، فتحتها أسرة الجرادي للفقراء في سوق فروة في مديرية شعوب.

كان مخبز الجرادي يوزع الأرغفة مجانًا دون مقابل، لا ينتظر جزاءً ولا شكورًا.. لكن مساء الأحد، أُغلقت تلك النافذة إلى الأبد.. القصف الأمريكي حوّل مخبز الرحمة إلى مقبرة.. تفحّمت الأجساد، احترقت الأرغفة، وتهدمت منازل مجاورة.. سُجّلت عشرات الضحايا 48 شهيدًا وجريحاً، وبقي صدى المجزرة يتردّد بين أزقة شعوب وفروة.

الغارة لم تقتل فؤاد وحده، بل أحرقت معه الأرغفة والأجساد، وتهدمت بفعلها منازل مجاورة، ودوّت المجزرة في كل قلوب مكلومة.

من يجيب على سؤال الأم؟

في بيتٍ مظلم، جلست والدة فؤاد تحتضن صورة قديمة له، وتهمس بصوت مكسور: “وين راح ابني؟ خرج يشتري خبز.. ليش رجعوا لي قطعة؟”.. لا أحد يجيب.. ولا الولايات المتحدة ترحم ولا طائرة تعتذر، ولا صاروخ يبرر، ولا العالم الصامت يسأل عن موت فقير خرج فقط ليطعم عائلته.

“فرن الجرادي” لم يُقصف فقط.. بل اغتيلت معه إنسانية كانت تقاوم الجوع بالنار والخبز.. لم يكن هدفًا عسكريًا.. كان مصدر حياة لليائسين، ومكانًا تقف فيه الإنسانية على قدم واحدة، قُصف الفرن.. واغتيلت معه فكرة الرحمة، واندفنت فيه واحدة من حكايات كثيرة لا يسمعها أحد.

فؤاد النجار لم يكن رقمًا في تقرير ميداني، بل حكاية قصيرة عن أبسط الحقوق التي تُدفن تحت الركام، وسط عالمٍ لا يسمع إلا صوت الصواريخ.. بل كان “فؤاد” حكاية شاب في بداية عمره، خرج بدافع الجوع، فعاد… مجرد “قطعة لحم”.

قد يعجبك ايضا