عبدالكريم مطهر مفضل/وكالة الصحافة اليمنية//
في مشهد تتصدع له القلوب وتدمع له العيون، كانت صرخات الطفل اليمني “محمد الجومري” الذي لم يتجاوز عامه الثالث وهو يبحث عن أمه تحت ركام منزله المدمر في صنعاء.. تردّد الصدى نفسه لصرخات طفل فلسطيني آخر في غزة، يعتلي أنقاض بيته الذي سوي بالأرض.. كأن المأساة قد رُسمت بمشهد واحد يتكرر على ضفتي الوجع، وكأن الغارات – سواء كانت بأيدٍ أمريكية في صنعاء أو إسرائيلية في غزة – قد اتفقت جميعها على انتزاع الطفولة ودفنها تحت الركام.
في اليمن كما في فلسطين، تتوالى الجرائم بحق الأطفال الأبرياء، بلا تفريق ولا رحمة.. صواريخ تتهاوى على رؤوس الصغار، تهدم المنازل فوق أحلامهم، وتسرق من عيونهم المضيئة دفء الأمان.
وفي ظل هذا الخراب المستمر، تتشابه المأساة، وتتكرر الفاجعة، فيما يقف العالم العربي والإسلامي والمجتمع الدولي متفرجين، صامتين، كأنهم تواطؤوا بالصمت مع القتلة.
ما أشبه صرخة محمد الجومري في صنعاء بنداء محمد في غزة… كلاهما يبحث عن أم غيبها القصف تحت الأنقاض، وكلاهما يرفض النجاة وحده، ليصرخ للإنسانية كلها: “أمي لا تزال حية!”
صرخة طفل يمني.. لا نجاة دون أمي
لم يكن الطفل اليمني “محمد”، الذي بالكاد تجاوز عامه الثالث، يعلم أن منزله المجاور للمستشفى اللبناني في حي 14 أكتوبر بمديرية السبعين في قلب صنعاء، سيتحول فجأة إلى كومة من الركام.. كان رجال الدفاع المدني يمدون أيديهم نحوه لإنقاذه من تحت الأنقاض، لكنه رفض أن يتحرك وهو يصرخ بحرقة تخترق جدران الألم: “أمي لا تزال حية.. أريد أمي!”
وقف والد الطفل اليمني مذهولاً فوق الركام، ينادي باسم طفليه: “محمد” و”زهراء” وزوجته “بتول”، يحفر بقلبه قبل أظافره، وفجأة المسعفون يصلون إلى الطفل محمد.. كانت يداه الصغيرتان ترتجفان وهو يمدها نحو ضوء خافت يشق طريقه عبر الغبار الكثيف.. رجال الدفاع المدني كانوا يصرخون: “أمسك بيدي.. نحن هنا لإنقاذك!”، لكنه، رغم جراحه، أبى أن يغادر المكان، وبصوت متحشرج بالبكاء، صرخ الطفل اليمني محمد من تحت الأنقاض: “لا… أمي بتول لا تزال حية! أريد أمي!”
توقف المنقذون لثوانٍ، كأن الزمن تجمد احترامًا لصرخة البراءة تلك.. لم يكن مجرّد نداء طفل مذعور، بل صدى لكل قلوب الأمهات المدفونة تحت ركام الحروب.. وبهدوء اقترب أحد المسعفين احتضن الطفل لكن الطفل ظل يصرخ أمي بخير.. حينها طلب المسعف من الطفل المذعور أن ينادي والده.. صرخ محمد: “بابا بابا”
ركض الأب المكلوم نحو فلذة كبده واحتضنه بشدة، لكن الطفل محمد، ظل يرفض النجاة وحده.. كانت عينه تبحث عن ملامح أمه “بتول” وأخته “زهراء” بين الأحجار المتساقطة، وكان قلبه يرفض تصديق أن منزلهم قد تهاوى بالكامل بفعل صاروخ أمريكي.
أرواح بريئة
هذه الجريمة جاءت ضمن سلسلة من الغارات التي تنفذها القوات الأمريكية على اليمن، في سياق الدفاع عن الاحتلال الإسرائيلي، بينما في الحقيقة، هي تمعن في مضاعفة مأساة الأبرياء في صنعاء كما في غزة.
في صنعاء، أسفر القصف الأمريكي مساء السبت، عن 12 شهيداً وإصابة تسعة مدنيين، بينهم شهيدان وإصابة امرأة في قصف المنزل بحي 14 أكتوبر فيما كانت فرق الإنقاذ تواصل الحفر بحثًا عن ناجين.
صدى الألم بين غزة وصنعاء
الألم واحد، والمأساة واحدة، وإن اختلفت الجغرافيا
صوت الطفل اليمني المختنق بالتراب والغبار، تداخل مع صرخات أطفال غزة، في مشهد يتجاوز الحدود ويختصر المأساة: طفولة مسحوقة تحت أنقاض الحروب.. وأمومة تبتلعها فوهات القذائف.
وفي مشهد موازٍ على أرض غزة المثخنة بالجراح، تكرر المشهد ذاته: طفل يدعى “محمد” يعتلي كومة من الردم الذي كان بالأمس بيتًا، وقف فوق أنقاض منزله الذي دمرته غارة صهيونية، غير مصدق أن الأحلام التي بناها داخل جدرانه تحولت فجأة إلى رماد وقبور لأفراد أسرته بفعل قصف غادر، مجرد من كل معاني الإنسانية.
وبينما والده يحاول تهدئته يصرخ طفل غزة محمد باسم أمه المفقودة عائشة.. يردد الكلمات ذاتها: “أمي لا تزال حية.. أمي تحت الركام!”
تكررت الحكاية.. لطفولة مسحوقة
الطفل، الركام، النداء المفجوع، والاحتضان الذي لا يستطيع أن يدفئ فقدان الأم.. كأن الألم صار لغةً مشتركة بين أزقة حي 14 أكتوبر في صنعاء، وأزقة غزة.. كأن الخوف من الفقدان صار أبجدية يحفظها الأطفال في فلسطين واليمن عن ظهر قلب دون أن يتعلموها.
الغارات لا تفرق بين طفلين ولا بين مدينتين، فالطائرات التي دمرت بيت الطفل اليمني، هي ذاتها التي تمعن في سحق غزة لليوم الـ569 بلا رحمة.
غزة تنزف.. صنعاء تكتوي
في غزة، حيث لا تزال الغارات الإسرائيلية مستمرة منذ 569 يومًا، أطفال بلا أسر.. وأسر بلا منازل، ومدن تتحول إلى مقابر جماعية، والبيوت إلى حفر من الموت.
وفي اليمن، تتولى الطائرات الأمريكية تنفيذ دور مشابه.. يكتب الأمريكيون فصلًا آخر من فصول الألم الإنساني، بقنابلهم وصواريخهم التي لا تفرق بين مستشفى ومنزل، ولا بين حلم طفل ووصية أم.
خذلان العرب.. وصمت العالم