تقرير: وكالة الصحافة اليمنية
التحركات المتسارعة في منطقة القرن الإفريقي لا تكاد تتوقف، فكل يومٍ يُفاجأ الناس بخطواتٍ جديدة، بدأت تلك التغيرات الدراماتيكية باستقالة رئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايلي مريام ديسالين على وقع احتجاجات تنادي بالإصلاح السياسي رغم أنه بدأ خطوات جادة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ثم أتبعه بقرار إغلاق سجن “ماكالاوي” سيء السمعة وتحويله إلى متحف، واستمرت مسيرة التغيير والإصلاح في عهد رئيس الوزراء الحاليّ آبي أحمد الذي أكمل رؤية سلفه بالإفراج عما تبقى من المعتقلين بل ذهب إلى أبعد من ذلك عندما تبنّى سياسة “تصفير” المشاكل مع دول الجوار فزار جيبوتي والسودان لإحكام التنسيق الأمني ثم مصر لطمأنتها على حصة مياه النيل.
البداية باتفاق السلام الإثيوبي ـ الإريتري
المفاجأة الحقيقية تمثّلت في الخطوة التي اتخذها ائتلاف “الجبهة الثورية الديموقراطية للشعوب الإثيوبية” الحاكم في عهد آبي أحمد بالموافقة على تنفيذ اتفاق الجزائر عام 2000 لترسيم الحدود مع الجارة اللدود إريتريا وهو ما يعني تلقائيًا التنازل عن بلدة بادمي التي كانت تحت سيطرة إثيوبيا ورفضت إعادتها لإريتريا.
بعد زيارة آبي أحمد إلى أسمرة بأسبوعٍ واحد وصل الرئيس الإريتري أسياس أفورقي إلى أديس أبابا وألقى خطابًا في أضخم قاعة بالعاصمة الإثيوبية، وأعلن الزعيمان من هناك إعادة فتح السفارة الإريترية واستئناف العلاقات الاقتصاديةوخطوة آبي أحمد الخاصة بالموافقة على تنفيذ اتفاق الجزائر مهّدت لزيارته التاريخية إلى أسمرة التي وُصفت بأنها كسرت جدار برلين الإفريقي بين الدولتين الجارتين، حيث لم يقم أي مسؤول منهما بزيارة الأخرى منذ ما يزيد على 20 عامًا.
بعد زيارة آبي أحمد إلى أسمرة بأسبوعٍ واحد وصل الرئيس الإريتري أسياس أفورقي إلى أديس أبابا وألقى خطابًا في أضخم قاعة بالعاصمة الإثيوبية، وأعلن الزعيمان من هناك إعادة فتح السفارة الإريترية واستئناف العلاقات الاقتصادية إلى جانب استخدام إثيوبيا الحبيسة موانئ إريتريا “عصب ومصوع” في نقل الصادرات والواردات.
فور توقيع اتفاق السلام، بادرت وسائل الإعلام الإماراتية بالحديث عن رعاية أبو ظبي للمصالحة التاريخية بين البلدين، وفي البداية رفض المتحدث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية ملس ألم وجود دورٍ لأي دولة في الوساطة بين إثيوبيا وإريتريا، لكن الإمارات سارعت بدعوة آبي أحمد وأفورقي إلى أبو ظبي ليتم تكريمهما بوسام زايد للسلام في خطوةٍ ربما تعكس غضبًا إماراتيًا من تصريحات المتحدث الرسمي فضلًا عن السعي لتحسين صورة أبو ظبي في المنطقة بعد طردها من جيبوتي والصومال.
فك العزلة الإقليمية عن إريتريا
يمكن القول إن دولة إريتريا كانت معزولة تمامًا وسط محيطها الإقليمي، فعلاقاتها مع إثيوبيا كانت مقطوعة نهائيًا ولا يوجد أدنى حد من التنسيق حتى إن منطقة الحدود شهدت حوادث مأساوية آخرها قبل عامين، عندما توغل مواطن إثيوبي يعاني من الصمم في المنطقة الحدودية دون أن يدري فحاولت القوات الإريترية تحذيره ولأنه لا يسمع لم يتوقف فأطلقت عليه النار وأردته قتيلًا.
وكذلك كانت علاقات أسمرة شبه مقطوعة مع جيبوتي والصومال إلى جانب السودان، إذ شهد مطلع العام الماضي توتر العلاقات بين الخرطوم وإريتريا بعدما تناقلت وسائل إعلام أنباء عن وجود قوات مصرية في معسكر ساوا الإريتري، ثم بلغ الأمر قمته بإعلان السودان إغلاق الحدود مع الجارة الشرقية ونشر قواته المسلحة على تخوم ولاية كسلا المحاذية لإقليم القاش بركة الإريتري.
داخليًا، معروف أن نظام أسياس أفورقي من أكثر الأنظمة قمعًا ووحشية لدرجة أنه يُطلق على إريتريا في عهده لقب “كوريا الشمالية إفريقيا”، إذ زجّ بالآلاف من أبناء الشعب في السجون والمعتقلات بعضهم منذ استقلال البلاد عن إثيوبيا عام 1993؛ لذلك اختار كثير من الإريتريين الهجرة إلى خارج البلاد هربًا من القمع والخدمة العسكرية التي تستمر لـ10 سنوات أو أكثر بلا مقابل مادي، إضافة إلى معاناتهم مع حظر السفر إلى الخارج الذي تفرضه السلطات الأمنية على فئة الشباب.
لم تقف التغيرات في منطقة القرن الإفريقي عند المصالحة الإثيوبية الإريترية، ففي نهاية يوليو/تموز الماضي توجه الرئيس الصومالي محمد عبد الله فرماجو إلى أسمرة بعد قطيعة دامت 15 عامًا، وحظي فرماجو باستقبال شعبي ورسمي حافلين، خلال زيارته التي استمرت 3 أيام.
فقد خرج المئات من المواطنين الإريتريين إلى شوارع العاصمة، رافعين أعلام البلدين، وصور الرئيسين ترحيبًا بمقدم فرماجو والوفد المرافق له، قبل أن يشرع على الفور في إجراء محادثات مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي.
تدهورت علاقات إريتريا والصومال بسبب اتهامات وجهتها مقديشو لأسمرة بدعم حركة الشباب المرتبطة بتنظيم القاعدة، التي كانت تسعى لإسقاط الحكومة الصومالية، وبسبب هذه الاتهامات، فرضت الأمم المتحدة عقوبات على إريتريا منذ 2009 تشمل تجميد أصول ومنع مسؤولين سياسيين وعسكريين من السفر، إضافة إلى حظر على الأسلحة.
جيبوتي غاضبة من زيارة فرماجو لإريتريا
وبالعودة إلى زيارة الرئيس الصومالي فرماجو إلى إريتريا نجد أنها أثارت لغطًا كبيرًا، حيث انقسم الرأي العام الداخلي بين مؤيد ورافض لفكرة التصالح مع أسياس أفورقي باعتباره رجلًا متقلبًا لا يستقر له حال والسلام معه مستحيل.
كما تخوف آخرون من انعكاس زيارة فرماجو لأسمرة سلبًا على العلاقات مع جيبوتي التي تربطها علاقات وثيقة مع الصومال، حيث لم تأل الأولى جهدًا لإعادة الأمن والاستقرار إلى الصومال في فترات سابقة، ونظّمت مؤتمرات سلام وجلسات حوار بين الفرقاء السياسيين الصوماليين، الأمر الذي أكسب النظام الجيبوتي برئاسة إسماعيل عمر جيلي احترامًا ومحبة لدى الشعب الصومالي الذي يعتبر جيلي صديقًا
موثوقًا ووفيًا.
وبالفعل سرعان ما عبّرت جيبوتي عن غضبها من زيارة فرماجو إلى إريتريا ومطالبته برفع العقوبات عن أسمرة، إذ أعربت الحكومة الجيبوتية عن صدمتها من دعوة الرئيس الصومالي محمد عبد الله فرماجو خلال زيارته للعاصمة الإريترية، الأمم المتحدة إلى رفع العقوبات عن أسمرة، وأشار بيان صدر من السفارة الجيبوتية في مقديشو إلى أنه كان على الرئيس الصومالي أن يتطرق إلى المشكلة الحدودية بين
جيبوتي وإريتريا ويدعو إلى إيجاد حل سريع لها.
ولم ينس البيان أن يذكر بأن جيبوتي فقدت جنودها في القتال الذي خاضته مع إريتريا رافضةً خطوات الرئيس الصومالي في الوقت الذي يدافع فيه الجنود الجيبوتيون عن أمن واستقرار الصومال.
في تقديرنا، لم يوفق الرئيس الصومالي في زيارته أسمرة واتخاذه موقفًا سياسيًا مثل الدعوة لرفع العقوبات عن إريتريا من دون أن ينسق مع حليفه الوفي إسماعيل جيلي بشكلٍ مسبق، خصوصًا أن رئيس الوزراء الصومالي حسن خيري قام بزيارة إلى جيبوتي في يونيو/حزيران لوضع رؤية مشتركة للتكامل بين البلدين في مجالات الأمن والدفاع والاقتصاد والتنمية وتقديم نموذج قوي للتعاون الثنائي والعمل المشترك بين دول القارة الإفريقية.
ولكن يحمد لفرماجو أنه أحسّ بتسرعه في خطوة التصالح مع أسياس أفورقي، لذلك فضّلت القيادة الصومالية عدم الرد على بيان العتاب الجيبوتي شديد اللهجة، ومضى الرئيس الصومالي ليقود وساطة بين إريتريا وجيبوتي كما كشف وزير الإعلام بحكومة فرماجو في وقتٍ لاحق.
قمة ثلاثية مفاجئة
صباح الأربعاء 5 من سبتمبر/أيلول الحاليّ أعلنت وسائل إعلام إثيوبية توقف رئيس الوزراء آبي أحمد ـ الذي كان قادمًا من الصين ـ في إريتريا للقاء أسياس أفورقي ولزيارة مينائي عصب ومصوع حيث رست سفينة الشحن الإثيوبية “مقلي” على الميناء الأخير كأول سفينة إثيوبية تصل سواحل إريتريا بعد اتفاق السلام.
وتزامنًا مع وصول آبي أحمد، أعلن وزير الإعلام الإريتري يماني جبر ميسكل انضمام الرئيس الصومالي محمد فرماجو إلى أفورقي وآبي أحمد لتحتضن العاصمة الإريترية أسمرة قمة تجمع القادة الثلاث.
وخلصت القمة الثلاثية إلى اتفاق قادة الصومال وإثيوبيا وإريتريا على بناء تعاون أوثق في مجالات السياسة والأمن والاقتصاد، كما اتفق الزعماء على العمل لجعل منطقة القرن الإفريقي منطقة مستقرة ومزدهرة.
لم ترشح معلومات عن تفاصيل الاتفاقيات لكن من الواضح أن اللقاء الثلاثي ناقش التوسط بين إريتريا وجيبوتي خاصة أن الأخيرة انزعجت من تحركات جارتيها لمصالحة أسياس أفورقي، كما تخوفت جيبوتي من خسارة مينائها لحركة البضائع الإثيوبية إذ توصل آبي أحمد لاتفاقيتم بموجبه استخدام إثيوبيا مينائي عصب ومصوع الإريتريين.
بالنسبة لموقف الشعب الإريتري من السلام مع إثيوبيا، قال عثمان شيكاي في حديثه الخاص لـ”نون بوست”: “نحن نعتبر ما يجري الآن هو بيع إريتريا أو تسليمها للمستعمر القديم بشكل مقنن عبر ما يسمى الحكومة الإرترية الموقتة” مما يدلل على أن القمة الثلاثية ركزت على أزمة جيبوتي ـ أسمرة، توجُه وزراء خارجية الدول الثلاثة (إثيوبيا، إريتريا، الصومال) فور انتهاء القمة إلى جيبوتي حيث التقوا بالرئيس إسماعيل عمر جيلي وناقشوا معه مخرجات قمة أسمرة، وربما استطلعوا رأي القادة الجيبوتيين عن مسألة الحدود بين بلادهم وإريتريا وكيفية حل الخلاف نهائيًا.
مبادرة للصلح بين جيبوتي وإريتريا
من الواضح أن هناك مبادرة تتبلور للوساطة بين جيبوتي وإريتريا، صحيح أن لقاء وزراء خارجية الدول الثلاثة مع جيلي لم يتعدّ نطاق العلاقات العامة والحديث عن التعاون المشترك والسلام والاستقرار، إلا إنه يشير إلى مُضي البلدين في اتجاه حل الخلافات واللحاق بقطار المصالحة المنطلق بسرعة لافتة.
عن تطورات الأحداث في المنطقة، علّق لـ”نون بوست” الكاتب الإريتري عثمان شيكاي قائلًا: “إريتريا وإثيوبيا دخلتا مراحل متقدمة من التطبيع قد يصل إلى تدخل الثانية في إريتريا كما لو أنها إثيوبيا قريبًا”، ويضيف شيكاي “هذه رغبة أمريكا طبعًا والوكيل السعودي الإماراتي كما يتم استدراج الصومال لهذا المحور عبر الضغط عليه من إريتريا وإثيوبيا وربما تلحق جيبوتي قريبًا، والمصالح الدولية
والأطماع الإقليمية متحركة في المنطقة”.
وبالنسبة لموقف الشعب الإريتري من السلام مع إثيوبيا، قال عثمان شيكاي في حديثه الخاص لـ”نون بوست”: “نحن نعتبر ما يجري الآن هو بيع إريتريا أو تسليمها للمستعمر القديم بشكل مقنن عبر ما يسمى الحكومة الإرترية الموقتة وإثيوبيا عينها على الموانئ الإريترية وموقعها الإستراتيجي ليس إلا وفِي سبيل الحصول على ذلك تنازلت عن المنطقة المختلف عليها “بادمي” التي خسرنا فيها ما يقارب الـ40
ألف شهيد وربما إثيوبيا خسرت أرواح أكثر من هذا العدد”.
ولمعرفة وجهة النظر الجيبوتية استطلع مراسل “نون بوست”، عبدو جمعر الإعلامي بالتليفزيون الرسمي في جيبوتي الذي اعتبر أن “السلام والاستقرار غاية نبيلة لا خلاف بشأنها وأنه لا أحد يرفض رجوع المياه إلى مجاريها بين بلاده وإريتريا، لكن جمعر عاد وقال: “حتى لو تم فرش بساط من الذهب بين إريتريا ودول الجوار لن تكون هناك فائدة من هذه التحركات ما لم تعالج حكومة إريتريا أزمتها الداخلية مع شعبها الذي لم يذق طعم الاستقلال ولا الاستقرار”.
إعادة تشكيل القرن الإفريقي برؤية إماراتية
انعقاد القمة الثلاثية عضّد ما كان يُتداول إعلاميًا عن إعادة تشكيل القرن الإفريقي بعد التطورات الأخيرة التي بدأت بحركة التغييرات التي شهدتها إثيوبيا فضلًا عن المصالحة المفاجئة مع إريتريا، وذلك ما تحدث عنه موقع إخباري إماراتي مقرب من الأجهزة الأمنية، حيث اعتبر تقرير لموقع “إرم نيوز” أن ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد آل نهيان، يتوسط من أجل إعادة هيكلة أو ترتيب لمنطقة القرن الإفريقي، برؤية تمتلك عناصر المبادرة والشمولية في تحقيق الاستقرار.
ورأى التقرير أن زيارة ابن زايد لإثيوبيا في يونيو/حزيران الماضي كرّست في الإعلام الدولي صورة جديدة بأن منطقة القرن الإفريقي أضحت “حلقة محورية في الأمن الإقليمي” برؤية تتوافق مع مضامين التحرك السعودي الإماراتي في هذا المحيط الجيوإستراتيجي المتشابك بعيدًا عن نهج الحكومة الإثيوبية السابقة التي كانت أكثر ميلًا للتحالف القطري التركي بحسب الموقع.
لا نعتقد أن الموقع المقرب من حكومة أبو ظبي قد ذهب بعيدًا من حيث الخطط والإستراتيجيات الإماراتية المتسقة مع سياسيات الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن عند قراءة أوضاع دول القرن الإفريقي بتروٍ، لا نجد حليفًا صريحًا لأبو ظبي في المنطقة “حتى الآن” سوى أسياس أفورقي الذي تحتضن بلاده قاعدة إماراتية على ميناء عصب.
أما إثيوبيا فهي أذكى من أن تنجر بشكل كامل مع أبو ظبي رغم الإغراءات الاقتصادية ودفع الأخيرة ودائع بقيمة 3 مليارات دولار مؤخرًا، كما أن علاقات الصومال وجيبوتي لا تزال متوترة مع دولة الإمارات حتى إن تصالحت مقديشو مع أسمرة، وكذلك السودان الغائب عن التحركات الأخيرة لن ينضم بالطبع إلى محورٍ تقوده الإمارات، والمشكلة الكبرى التي تواجهها الأخيرة في منطقة القرن الإفريقي هي السمعة السيئة والكراهية التي تكونت لدى الرأي العام في شرق إفريقيا بعد طرد شركة موانئ دبي من ميناء جيبوتي واستبعاد أبو ظبي من تدريب الجيش في الصومال بعد ضلوعها في محاولة إدخال أموال مشبوهة، إضافة إلى تورطها في قتل الصيادين الإرتريين الأبرياء من قومية العفر.
المصدر: noonpost