من أوسلو إلى “صفقة القرن”..كيف عاش الفلسطينون وهم تحقيق الدولة، وكيف سيق العرب صوب التطبيع؟!
تقرير وثائقي: وكالة الصحافة اليمنية ضرب حيدر عبد الشافي باب مكتب الرئيس الراحل ياسر عرفات في تونس بقدمه غاضبًا والشرر يطير من عينه، صارخًا في وجهه: “ترسلنا عبر وفد إلى واشنطن لمفاوضة أمريكا، وتتفاوض مع وفد آخر في أوسلو وتعلن التوصل إلى اتفاق مع الإسرائيليين؟!”. انزعج عرفات من تصريحات رئيس أول مجلس تشريعي في […]
تقرير وثائقي: وكالة الصحافة اليمنية
ضرب حيدر عبد الشافي باب مكتب الرئيس الراحل ياسر عرفات في تونس بقدمه غاضبًا والشرر يطير من عينه، صارخًا في وجهه: “ترسلنا عبر وفد إلى واشنطن لمفاوضة أمريكا، وتتفاوض مع وفد آخر في أوسلو وتعلن التوصل إلى اتفاق مع الإسرائيليين؟!”.
انزعج عرفات من تصريحات رئيس أول مجلس تشريعي في قطاع غزة وأحد مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية حيدر عبد الشافي، والذي استقال من قيادة وفد المفاوضات المتجه لأمريكا عام 1993 حينما علم بأمر المفاوضات السرية بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، التي أنجبت الجنين المشوه والذي سمي لاحقًا، اتفاق “أوسلو”، وملحقه “بروتوكول اتفاق باريس الاقتصادي”.
لكن نخبة اقتصادية معولمة من أهم قياداتها منيب المصري الذي شغل بعدها منصب رئيس لجنة القدس ومدير مؤسسة باديكو، نجحت في إقناع الرئيس عرفات أن المسار السياسي سيكون مواكب تمامًا للمسار الاقتصادي بعد توقيع الاتفاق، أي أن الأموال ستتدفق بشكل كبير لإنشاء اقتصاد فلسطيني قادر على القيام بذاته، وكان وفد المنظمة وقتها متعنتًا يطالب بشروط قوية للخروج باتفاق لائق يضمن سيادة فلسطينية على الأراضي التي تدخل إليها “القوات الفلسطينية”، وكان التخوف الكبير يطرق أبواب كل من الكاتب الكبير إدوارد سعيد والفيلسوف محمود درويش، لكن إسحاق رابين علم من خلال وزير مصري سابق في عهد السادات أن المنظمة على وشك الإفلاس وتعاني من أزمة مالية خانقة، ولم تدفع رواتب موظفيها منذ 9 أشهر؛ ما غير مجرى المفاوضات بشكل كامل.
خرجت أوسلو مشلولة منذ البداية تشبه جنينًا مشوهًا بلا والدين، وهي التي أدار الفلسطينيون لأجلها ظهورهم للثورة لكنهم لم يدخلوا حتى باب الدولة الحقيقية الكاملة من خلالها، وقد صرح أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير السابق ياسر عبد ربه قائلًا: “لم تتضمن أوسلو أي كلمة تتحدث عن إنهاء الاحتلال، ولا إنهاء الاستيطان، ولا دولة فلسطينية”، فقد قادها قيادات حزب العمال النرويجي بعد افتتاح أول قناة سياسية سرية مع أعضاء من حزب العمال الإسرائيلي بِسَعي الرئيس الراحل ياسر عرفات، وقد كانت النرويج من أكثر الدول المؤيدة للاحتلال الإسرائيلي، وتسعى لمحاكاة نموذج الديمقراطية الاشتراكية التي طبقه الاحتلال الإسرائيلي وقتها.
تلاقت أفكار العمال النرويجيين مع ما كان يسعى إليه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كسنجر خطوة بخطوة، ولكن النرويج كانت تسير وفق الخطوط التي وضعها الاحتلال الإسرائيلي تمامًا لإغراق الفلسطينيين أنفسهم بإدارة أنفسهم عبر أزمات تتولد باستمرار وتدريجيًا، وتنازلات تضفي بالنهاية للاعتراف الكامل بالاحتلال الإسرائيلي وهو ما حصل، وتشير هيلدا وييج المؤرخة النرويجية المختصة في محادثات أوسلو السرية قائلة عن الدور النرويجي: “ليس من السهل على دولة صغيرة كالنرويج أن تقوم بدور محايد، كان محتم على دورها أن يكون بحسب قواعد اللعب الإسرائيلية”.
التخلص من عبء المناطق المحتلة
تفجر انتفاضة عام 1987 كان على عكس توقع الاحتلال الإسرائيلي وحتى منظمة التحرير، فهي تحرك للشارع الفلسطيني الرافض لكل الممارسات اليومية التي تتبعها سلطات الاحتلال في غزة والضفة بشكل عفوي، ما أفقد الاحتلال السيطرة تمامًا، وكانت القناة السياسية السرية النرويجية على وشك الإغلاق، إلا أنه في أوج الأحداث ربيع 1988 أرسل وزير الخارجية النرويجي آنذاك ثورفالد ستولتنبرغ رسالة خاصة باليد إلى وزير خارجية الاحتلال الإسرائيلي شمعون بيرز كتب فيها: “فقط عبر التخلص من عبء المناطق المحتلة ستنجح “إسرائيل” وتزدهر”.
لم يستطع الوفد الفلسطيني المفاوض الوصول إلى أي نتيجة مع الاحتلال الإسرائيلي لأي حل في ملفات “الحل النهائي” التي تتضمن القدس وعودة اللاجئين والحدود
من رسالة ستولتنبرغ إلى بيريز، الصورة نقلاً عن قناة الجزيرة من فيلم “ثمن أوسلو”
فرح الفلسطينيون الذين بدأوا باستقبال العائدين من الشتات لتخليصهم من الاحتلال، وأقيمت الذبائح على امتداد شارع صلاح الدين الأيوبي في قطاع غزة ضمن اتفاق “غزة أريحا أولاً”، وبدأت التهاني تتدفق عبر الصحف والإذاعات للسيادة الجديدة، فهم بانتظار كيان سياسي يتضمن اقتصاد سيادي، وحرية تنقل تتضمن ميناء ومطار وقوة شرطية ترفع ذل الشرطة الإسرائيلية، وبدأت أموال المانحين تتدفق، فقد تعهد المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية منذ العام 1994-2001 بما قيمته 6.09 مليار دولار، لكن ما وصل فعليًا منها ما قيمته 3.39 مليار دولار.
الصفحة الأولى لصحيفة القدس الفلسطينية بتاريخ ١٤ أيلول ١٩٩٤م
كانت حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية والديمقراطية في حل من اتفاق أوسلو، وفي غياب عن أجواء “الفرح المؤقت” الذي سرعان ما تحول معه قاتلون القدامى – جماعة السلطة تحديدًا – إلى مجموعات من أرباب المصالح أرهقت الفلسطينيين أكثر من الاحتلال نفسه، لكن الرئيس عرفات ظل مراهنًا على المسار التفاوضي للوصول إلى نقطة الصفر، فلم يستطع الوفد الفلسطيني المفاوض الوصول إلى أي نتيجة مع الاحتلال الإسرائيلي برعاية الوساطة الأمريكية لأي حل في ملفات “الحل النهائي” التي تتضمن القدس وعودة اللاجئين والحدود، مما استدعى خطاب البندقية مؤقتًا في انتفاضة الأقصى.
في مرحلة أوسلو الأولى ورغم تهدئة الأوضاع الأمنية وشل عصب المقاومة من السلطة، فإن الاحتلال لم يقدم للفلسطينيين أي شيء إلا تحسنًا مؤقتًا على طبيعة الأوضاع الاقتصادية وانخفاض مؤقت للبطالة والفقر لم يصل النسبة التي كان عليها قبل أوسلو، وبعد اصطدام المفاوضات بقضايا الحل النهائي، التي انتهت بعد كامب ديفيد بتفجر انتفاضة الأقصى، تراجعت المؤشرات الاقتصادية سريعًا دلالة على أن الاقتصاد الفلسطيني كان اقتصادًا هشًا بتبعية عالية للاحتلال الإسرائيلي.
كيف تشكل الاقتصاد الفلسطيني بعد أوسلو إلى اليوم؟
يروى أنه في عام 2001 أي بعد عام واحد على تفجّر انتفاضة الأقصى، مرّ السفير النرويجي في فلسطين مع أحد الدبلوماسيين الفلسطينيين من أمام دوار “أنصار” غرب مدينة غزة، وكان على الجانب الآخر لسيارته عمال نظافة ينظفون الشارع، مختوم على ملابسهم من الخلف شعار مشروع مدعوم من الاتحاد الأوروبي، أحدهم يحمل ورقًا في يديه يدوّن الحاضرين ويراقب عملهم، في حقيقة الأمر لم يكونوا يفعلوا شيئًا؛ فإن تجمع عشرين عاملًا فلسطينيًا في شارع للنظافة لا يحتاج سوى عاملين دلالة على تحويل غزة إلى حالة إنسانية أكثر منها تنموية، تعتمد على الإغاثة الدائمة لضبط معدلات الفقر من الانزياح نحو الانفجار التام، علق وقتها السفير النرويجي قائلًا: نعلم جيدًا أن هذه المشاريع لا تفيد على البُعد التنموي، لكن هي ضمن سياسة جعل الفلسطينيين بحاجة دائمة للمساعدات الدولية الإغاثية”، ومن هنا بدأت صناعة الفقر بعد فشل عملية السلام.
ظل اقتصاد أوسلو هشًا يعتمد بشكل أساسي على المساعدات الدولية لتغطية العجز في ميزانية السلطة وكانت أمريكا بحذر تحافظ على المساعدات الأمنية ومساعدات الأونروا خشية تزايد تفجر الأوضاع خصوصًا في الضفة أو انتفاضات مجاورة يقودها اللاجئون في دول الشتات، وكان الخيار السريع عودة الاحتلال الإسرائيلي وأمريكا للمربع الأول وهو “إعادة صناعة الكيان السياسي” لكن هذه المرة يجب أن يشمل الجميع بمن فيهم من خرجوا طوعًا عن أوسلو “حركات المعارضة” المتمثلة بحماس والجهاد والجبهتين – الجهاد أبدت رفضها -، لإغراق ما تبقى من الشاغرين بالأزمات التوليدية وهو ما يفسر حالة الحصار على حماس قبل نضوج قوتها، وحالة التوقف عندها بعد تغير الإقليم.
هل تكون صفقة القرن آخر المطاف؟
لقد كانت أوسلو وهمًا للفلسطينيين، وبوابة للتطبيع العربي، فهم “ليسوا ملوكًا أكثر من الملك”، ومرحلة مؤقتة أراد منها الاحتلال العبور نحو العرب فقط، وإثبات وجهة نظره أن الفلسطينيين مُنحوا كيان سياسي فشلوا في إدارته وفشلوا في القضاء على العنف والتوصل للحكم الرشيد والقضاء على الفساد، وبموجبه وبحكم السيطرة الصهيونية العالمية رفضت أمريكا في نهاية سقوط آخر أوراق التوت التي قدمتها أوسلو منح الفلسطينيين “كود العبور” نحو دولة فلسطينية في السياق العالمي، ونزعوا منهم ما قاتلوا لأجله سنوات أوسلو
على الفلسطينيين أن يديروا أنفسهم وأزماتهم بما تبقى من مساعدات المانحين بلا اقتصاد حقيقي ولا سيادة ولا دولة، هكذا جاء ترامب بإدارته الجديدة وبمرحلة جديدة مختلفة في سياقاتها عن السابق، فقد فتحت أوسلو الباب أمام فرض وقائع جديدة لاقتصاد متّكِل تمامًا على المساعدات، وواقع عربي غير قادر على انتزاع مبادرات لصالح الفلسطينيين.
التهم الاستيطان الضفة الغربية وعزل غزة عنها وعزز الانقسام بشكل مقصود، ونقلت أمريكا سفارتها للقدس وتحاول القضاء على آخر معاقل الفلسطينيين (قضية اللاجئين وتفكيك الأونروا بدلالتها السياسية)، وصولًا لصفقة القرن، التي ستنهي السلطة الفلسطينية التي أتت أوسلو بها قبل ٢٥ عامًا، وتستبدلها -السلطة- بمشاريع اقتصادية وهمية دون محتوى سياسي، يديرها قيادات فلسطينية عبر مجالس محلية وحكومة إدارية اقتصادية على مساحة من الأرض غير معلوم شكلها أو نوعها أو مكانها.
المصدر: noonpost