تحليلات (وكالة الصحافة اليمنية)
لا تزال قضية إخفاء أو اغتيال المعارض السعودي جمال خاشقجي، ترمي بأصدائها في كل مكان، هذه القضية التي ملأت العالم وشغلت الناس، لم تكن أول سلوك إجرامي يُنسب إلى السعودية، بل إن تاريخ السعودية القديم منه والحديث يزخر بالكثير من الأحداث والوقائع ذات الطابع الإجرامي الصريح ليس آخرها العدوان الهمجي على الشعب اليمني الأعزل، والتي تعامت عنها وسائل الإعلام العربية والغربية، بل كانت معظم وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية تقف إلى جانب السعودية لقلب الحقائق وتصوير الضحايا مجرمين وبالعكس.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: ما الجديد في قضية خاشقجي؟ كي تنتفض في سبيلها جميع وسائل الإعلام العربية والغربية، وجميع المدافعين عن حقوق الإنسان، ولتحظى بهذا الكم الكبير من تصريحات المسؤولين الغربيين وتهديداتهم ووعيدهم والتلويح بفرض عقوبات اقتصادية، وكأنهم اكتشفوا فجأة السلوك الإجرامي وغياب الحريات والاستبداد الذي يمارسه آل سعود بحق شعوبهم وشعوب المنطقة، وهم أنفسهم كانوا في مقدمة المشيدين والمعوّمين للعهد السعودي الجديد بقيادة “الأمير الشاب” محمد بن سلمان.
الجدير بالذكر أن خاشقجي حتى أيامه الأخيرة، لمن يكن منشقّاً ولا معارضاً بالمعنى الحقيقي، كما أنه لم يعلن أي موقف ضد العائلة المالكة، لكن بالرغم من ذلك يحلو للإعلام الغربي اليوم أن ينعته بـ “بالمعارض العريق”، فهنالك من يريد أن يصنع منه رمزاً للحرية والديمقراطية، متناسياً أن خاشقجي كان ممن حملوا السلاح مع أسامة بن لادن، وعمل مع عبدالله عزام في باكستان، كما أن كتاباته لم تخلُ من التحريض الطائفي والدعوة للتطرف خاصة في القضية السورية، وهو الذي وصف قطع رؤوس جنود سوريّين من قبل داعش بأنه “تكتيك عسكري نفسي فعّال”، كما احتفى بالتفجيرات الإرهابية التي حصلت في الضاحية الجنوبية في بيروت، وكان متساوقاً إلى حدّ كبير مع السياسات السعودية، وصوتاً إعلامياً في الدفاع عنها.
إذن لماذا انقلب هؤلاء فجأة على السعودية، ولماذا بدأ ترامب يطلق التصريحات الحادة حول “عقاب شديد للسعودية” إذا ثبت تورطها في تصفية خاشقجي، ولماذا توعّدت الخارجية البريطانية السعودية بـ “عواقب وخيمة”، ولماذا بدأ الكونغرس ينادي بـ “اتخاذ موقف حازم” تجاه الرياض، عدا عن الموقف المندد للمنظمات الحقوقية المختلفة، في حين أن كل هذه المواقف لم تكن تظهر من قبل في القضايا التي تمسّ السعودية أو أحد أفراد العائلة المالكة فيها.
كلمة السر في كل ما يحصل، أن السعودية اليوم في حالة ضعف، بل إنها تعيش أضعف أيامها، وما علامة كثرة الجزارين، إلا أن الثور السعودي قد وقع بالفعل (كما يقول المثل العربي)، وكل من هؤلاء الجزارين يطمح بالحصول على حصة أكبر من الثور المذبوح، فبالنسبة للدول الغربية لم يعد الوقت اليوم، وقت إنقاذ السعودية، بل أصبح وقت تقاسم تركتها، وابتزازها بأكبر قدر ممكن للحصول على أموالها، وما حادثة خاشقجي إلا الشماعة لتحقيق ذلك.
فالسعودية اليوم تعيش أسوأ حالاتها، وتعصف بها الأزمات الداخلية والخارجية من كل حدب وصوب، فالعدوان الظالم الذي شنته على اليمن قد دخل عامه الرابع دون أن يحقق أهدافه، بل تحوّل إلى عبء ثقيل على هيبة السعودية وصورتها في الخارج، كما أن الدبلوماسية السعودية قد وصلت إلى الحضيض في ظل الأزمات المفتوحة على العديد من دول العالم كقطر وكندا وألمانيا والعراق ولبنان، أما الأوضاع الاقتصادية فمهددة بالانهيار في ظل زيادة الإنفاق العام وهبوط جميع المؤشرات الاقتصادية للبلاد، أما الاضطرابات الداخلية بين أبناء العائلة المالكة التي بدأت تطفو على السطح، فهي تشكّل الخطر الأساسي الذي يحدق بالسعودية، في ظل التنافس على السلطة، ومحاولة محمد بن سلمان إقصاء الأمراء ذوي النفوذ، وسط حديث عن حالة استياء عامة داخل عائلة آل سعود من تصرفات الأمير الشاب، بل إن بعض التسريبات تحدثت عن أن سرّ نقمة ولي العهد السعودي على خاشقجي، هو انحيازه لبعض الأمراء السعوديين الذي كان على خلاف معهم.
عموماً فإن الأزمات في السعودية ومنذ تعيين محمد بن سلمان في ولاية العهد، قد تكاثرت بشكل مضطرد، فالأمير الذي بدأ عهده بأزمة العدوان على اليمن، انتقل إلى الكلام عن تحالف عسكري إسلامي دون نتائج، ثم انتقل بعدها إلى رؤية 2030، التي فاقمت فقط من الإنفاق ووضعت السعودية على شفا أزمة اقتصادية، فقام باحتجاز الأمراء في فندق “ريتز كارلتون” ومصادرة أموالهم أو جزء منها لتحجيم دورهم، لينتقل من أزمة إلى أزمة أكبر منها عمقت الشرخ داخل أسرة آل سعود، ثم انتقل لحصار دولة قطر، والتصعيد مع كل من يوجه انتقاداً لإدارته كما حدث مع كندا، وكذلك التصعيد ضد الأصوات الداخلية شبه المعارضة وزجّهم في السجون مسنداً ظهره على الرئيس الأمريكي ترامب الذي ما فتئ يوجه الإذلال للسعودية بشكل غير معهود مطالباً إياها الدفع مقابل الحماية.
لا شك أن اغترار محمد بن سلمان بالدعم الأمريكي، كان من أكبر الأخطاء التي ارتكبها، حيث ظن أنه يستطيع فعل ما يشاء وتصفية خصومه خارج الحدود، ويبقى في منأى عن المساءلة أسوة بالكيان الصهيوني، إلا أن ترامب قد صرّح علناً بأنه لا يوجد شيء بالمجان، وإن كان من المفترض أن يقوم ترامب هذه المرة، بإنقاذ ابن سلمان، فإن الفاتورة ستكون كبيرة جداً وسط أنباء عن احتمال قيام السعودية بطرح شركة النفط “أرامكو” -التي تبلغ قيمتها السوقية تريليوني دولار- للاكتتاب العام في بورصة نيويورك فداء لرقبة ابن سلمان، كما أن تقارير صحفية أمريكية أخرى قد تحدثت عن فرضية استبدال ابن سلمان وقرب انتهاء أيامه في ولاية العهد، لكن الشيء الأكيد في كل هذا أن السعودية بدأت عصر السقوط، ومن الصعب أن تنهض منه.
المصدر : الوقت التحليلي