تقرير / علي جواد الأمين//
تدعو ألمانيا شركاءها الأوروبيين إلى وقف بيع الرياض الأسلحة على خلفية جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي، في حين لم تلتزم هي، ولا غيرها من الحكومات، بما كانت قد أقرته سابقاً على خلفية مجازر في اليمن، ما يشي بأن الخطاب، الذي لم يزعج الرياض هذه المرة، موجّهٌ إلى الداخل
كل الإجراءات و«القرارات» التي تلوح بها بعض الحكومات الغربية، بوقف تسليح السعودية، على خلفية جريمة قتل جمال خاشقجي، لا تبدو بخلاف سابقاتها التي كانت قد اتخذت بالفعل، على خلفية جرائم حرب كبرى في اليمن، قبل أن تتراجع عنها بعد إخماد نارها، كما لو أنها كانت مجرد «حبوب مخدرة» بطعم حقوق الإنسان، تُعطى على جرعات متفاوتة للشعوب والنخب وأعضاء البرلمانات، وفقاً لمدى استفاقة «الضمير العالمي» والظروف الداخلية فيها.
يبدو ذلك واضحاً، في ارتباط تحرك تلك الحكومات، فقط في الجرائم ذائعة الصيت، كجريمة قتل خاشقجي، أو المجازر الكبرى في اليمن، كـ«مجزرة الصالة الكبرى» في صنعاء، و«مجزرة ضحيان» في صعدة، بينما تُطوي ملفات تلك الجرائم التي تعترف السعودية بمسؤوليتها عنها، من دون أن تطالب بمحاسبة المسؤولين أو تقديمهم لـ«العدالة الدولية»، بينما الجرائم التي لا تُعد ولا تُحصى، من تلك التي لم تلقَ صدىً واسعاً في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، لا تُعيرها أي اهتمام، لأن الأخيرة لا تؤثر تداعياتها في اقتصاد الدول، الشريكة في كثير من قطاعاتها مع الرياض، لا سيما في تجارة الأسلحة، كما لا تؤثر، في صورة تلك الحكومات، التي تتخذ من حقوق الإنسان، شعاراً تزايد فيه على خصومها في الداخل والخارج.
لعل «خير» نموذج عن «النفاق الأوروبي»، ألمانيا، التي أعلنت أخيراً وقف بيع الأسلحة للرياض «حتى تتضح ملابسات قضية اغتيال خاشقجي»، كما قالت المستشارة أنجيلا ميركل، الأسبوع الماضي، قبل أن تتراجع وتضع الكرة في ملعب حلفائها الأوروبيين، باتفاق مع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أول من أمس، على «موقف منسق على المستوى الأوروبي». تسعى ميركل، التي تواجه أكبر ضغوط داخلية منذ وصولها إلى السلطة في العام 2005 في الانتخابات المحلية الحالية، إلى إظهار موقف «شكلي» في ظل دعوات متصاعدة داخل البرلمان لفرض عقوبات دولية ضد السعودية، كما طالب عضو لجنة الدفاع في «البوندستاغ» ينس كيستنر.
هي تعلم أن شركاءها الأوروبيين، لا سيما ماكرون، لن يوقفوا بيع السلاح للرياض، حتى لو تأكد قتل خاشقجي بأمر من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، أولاً لأن العواصم الأوروبية لا تواجه تلك الضغوط التي تواجهها هي في ألمانيا، حيث تُعد مسألة تجارة الأسلحة حساسة بين المحافظين والديموقراطيين الاجتماعيين، منذ فترة طويلة، نظراً لتاريخ البلاد في الحرب العالمية الثانية.
ثانياً، كون مبيعات الأسلحة الألمانية مقارنة بمبيعات شركائها الأوروبيين، كفرنسا وبريطانيا، تعتبر ضئيلة، إذ تعد السعودية ثاني أهم عميل لفرنسا، بصفقات بلغت قيمتها العام الماضي 14.7 مليار يورو، أي أربعة أضعاف قيمة الصفقات التي أعلنت حكومة برلين تصديرها، خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي (3.62 مليار يورو).
التجارب السابقة لتعليق برلين صفقات الأسلحة تؤكد شكلية هذه «الإجراءات»
لم ترد الحكومة الألمانية على طلبات «الأخبار» للتعليق على المحادثات الجارية الآن داخل الحكومة، في شأن كيفية التعامل مع صادرات السلاح إلى السعودية، التي تمت الموافقة عليها لكن لم تُسلّم بعد، كما أعلن الناطق باسم الحكومة، شتيفن زايبرت. لكن موقف برلين «الضعيف» من قضية خاشقجي، كما وصفه مسؤول العلاقات الخارجية لحزب «الخضر»، أوميد نوريبور، يبقى في إطار سياسة ميركل الداخلية، خصوصاً أنه جاء متأخراً (بعد أسبوعين من جريمة قتل خاشقجي)، في حين أن ما سبقه من تصريحات خلال الأسبوعين الأولين تشي باتجاه معاكس، وهو ما عبّر عنه مسؤول السياسة الخارجية في حزب ميركل، يورغن هارت، في حوار مع إذاعة «دويتشلاند فونك»، أنه «علينا استغلال نفوذنا الاقتصادي حتى تبقى السعودية على مسار يضمن الاستقرار في المنطقة».
في ضوء ذلك، لا يتوقع المراقبون الألمان أن تُقدم ألمانيا وأوروبا على عقوبات اقتصادية ضد المملكة، حتى لو ثبتت مسؤوليتها في قتل خاشقجي. ومن بوادر ذلك، إصرار ألمانيا على التعاون الأمني مع الرياض على رغم إعلان وزارة الداخلية، الأسبوع الماضي، أن الشرطة الاتحادية، أوقفت تدريبات لحرس الحدود السعودي.
لكن الوزارة عادت لتؤكد، أمس، أنه «لم يتم اتخاذ قرار في الوقت الراهن» بل تخطط الحكومة الفيدرالية، وفقاً لمجلة «ماينز ريبورت» الألمانية، لمواصلة المشروع وتوسيعه، خصوصاً أنه لا يتعيّن موافقة البرلمان على مهام الشرطة، مشيرةً إلى أن المشروع، الذي بدأ في العام 2009، بـ14 مدرباً من ضباط الشرطة الفيدرالية، أصبح واحدة من أطول البعثات الأجنبية للشرطة الألمانية على الإطلاق، إذ زاد عدد المدربين إلى 70 هذا العام، ومن المتوقع، بحسب مجلة التحقيقات الألمانية، أن تصل تكاليفه من الشهر الجاري، حتى سبتمبر/ أيلول عام 2019، نحو 4.3 مليون يورو، بعد أن كان 707 آلاف يورو في عام 2013.
التجارب السابقة لتعليق برلين صفقات الأسلحة للرياض، تؤكد شكلية هذه «الإجراءات» التي عادة ما ينتهي بعد أشهر مع انتهاء مفعول تداعيات الجريمة، إذ سبق وأعلنت برلين تعليق صفقات السلاح للدول المنخرطة في حرب اليمن، مطلع هذا العام، بعد سلسلة مجازر ارتكبها «التحالف» الذي تقوده الرياض، بحق المدنيين.
لكن بعد مرور 9 أشهر، عادت الحكومة الألمانية لتوافق على شحنة أسلحة للسعودية، منها 4 أنظمة لتحديد المواقع بالمدفعية، إضافة إلى 48 رأساً حربية و91 صاروخاً لسفن حربية إماراتية، وكأن شيئاً لم يكن. بل إن صادرات الأسلحة ارتفعت منذ ذلك الحين في شكل ملحوظ، جاعلة من المملكة ثاني أكبر مشتر للأسلحة الألمانية بعد الجزائر، إذ تجاوزت قيمتها منذ بداية العام، إلى ما يقارب النصف مليار دولار، على رغم الخلافات بين البلدين، التي بلغت أشدها بسحب الرياض سفيرها في برلين، بعد انتقاد وزير الخارجية الألماني السابق، سيغمار غابريل، الرياض، على خليفة احتجاز رئيس الحكومة اللبنانية، سعد الحريري، وتحذيره من حرب خليجية بسبب «محاولات عزل الدوحة» كما قال.
إدمان أوروبي على المال السعودي
يبدو واضحاً إلى أين سيصل «التنسيق الأوروبي» الذي تزعم برلين انتظاره لفرض عقوبات على الرياض، بالنظر إلى مراحل تعاطي الحكومات الأوروبية مع الرياض إثر جرائمها الكبرى ذائعة الصيت في اليمن. إذ لم يُسعف الموقف الألماني غير هولندا، التي دعا رئيس حكومتها، مارك روته، دول الاتحاد الأوروبي إلى تبني قرار بلاده في ما يتعلق بتقليص تجارة الأسلحة مع الرياض، بعد أن وافق البرلمان، بغالبية ساحقة، على مقترح إيقاف تجارة الأسلحة مع السعودية. لكن معظم بقية دول أوروبا، التي أبرمت صفقات أسلحة مع الرياض، تبدو مصممة على استمرار البيع بعد جريمة خاشقجي. فعلى غرار فرنسا، لم تُبدِ بريطانيا، التي تحتل المرتبة الأولى من بين الدول الأوروبية الأكثر تصديراً للأسلحة للسعودية، أي بادرة لوقف المبيعات للأخيرة.
حتى أن الحكومات التي سبق أن اتخذت قرارات بوقف الصفقات مع الرياض بسبب مجازر اليمن، كإسبانيا والسويد وسويسرا، عادت للتصدير بعد أشهر، وبعضها خلال أيام، إذ سبق أن علقت إسبانيا في الـ4 من سبتمبر/ أيلول الماضي، بيع أسلحة تضم 400 قنبلة فائقة الدقة ذات توجيه ليزري إلى السعودية، بعد شهر على «مجزرة ضحيان» في صعدة، حيث قتل أكثر من 50 طفلاً، في آب/ أغسطس الماضي، لكنها عادت للمضي قدماً في إتمامها، بعد أسبوع فقط، بحجة أنها لم تجد «فيه أية مخالفة تبرر عدم تنفيذه».
وعلى رغم أن الحكومة الحالية للاشتراكيين، كانت قد لوحت بإلغاء العقد الذي أبرمته حكومة المحافظين السابقة في العام 2015، في الرياض، وإعادة 9.2 مليون يورو (نحو 10.6 مليون دولار) دفعتها السعودية لمدريد، لكنها قررت، الأسبوع الماضي، على خلفية جريمة خاشقجي، الانضمام لحزب «الشعب» المعارض الرئيسي، في رفض مذكرة برلمانية تطالب الحكومة بوقف هذه الصفقات، ليس خوفاً على مصير الصفقة فقط، بل أيضاً طمعاً بصفقة أكبر تبلغ قيمتها نحو 2.10 مليار دولار تشتري بموجبها الرياض خمس بوارج، إذ ساهمت في إنعاش شركة أحواض بناء السفن الإسبانية العامة، فضلاً عن «مكاسب» أخرى تحدث عنها رئيس الوزراء، بيدرو سانشيز، الأسبوع الماضي، كمكافحة البطالة.
أما السويد، فلم تعلن وقف تصدير الأسلحة للسعودية على خلفية جريمة خاشقجي، على رغم أنها كانت قد سبقت جميع الدول الأوروبية بإلغاء عقود تسليح مع السعودية في العام 2015، لكنها واصلت البيع أيضاً.
وفي سويسرا، أكد وزير الخارجية، إيجنازيو كاسيس، أن بلاده سوف «تعيد تقييم» علاقاتها مع السعودية عقب مقتل خاشقجي، لكن وزير الاقتصاد، يوهان شنايدر أمان، دافع عن صفقات الأسلحة معها، في رد على دعوة وزيرة العدل، سيمونيتا سوماروغا، بوقفها، بحسب ما نقلت صحيفة «تاغس أنزايغر» السويسرية اليومية.