غريبٌ أمر كثير من قادة العرب وهم يبحثون عن طواحين هواء يصارعونها، حيث بات تناول قضايا الدولة يتم بخفة أو ارتجال، أو هو يأخذ طابعاً استعراضيًّا، لا شيء سوى جذب الناس أو استجلاب التصفيق!. فيما قضايا المصير هي في مكان آخر. لا شيء سوى الملهاة، سحب الناس إلى مشاهد مرتبة سلفاً، أو بطولات وهمية او انجازات استعراضية لا أكثر، فيما القضايا المفصلية في مكان بعيد لا أحد يجرؤ على الاقتراب منها. وإذا لم يجد “المخرج السياسي” “سيناريو” موفقًا، يتفتق عقله السينمائي على افتعال أزمات، أو فضائح رخيصة.. المهم عدم الاقتراب من المفاصل الأساس بأفق استراتيجي.
ممنوع على الناس طرح الأسئلة الصعبة، ناهيك عن التفكير في إجابات عليها، وهذا كله إفساحًا في المجال لأكبر قدر من التفاهات لتعطل عقولهم، أو لتأخذهم خارج السياق.. هذه مدرسة أسسها السادات ولاقت رواجاً بالعدوى. استعيد منها أمران يتصلان بقضية احتلال الأرض جراء عدوان 67؛ الأول عندما وعد بأن سنة 71 ستكون “سنة الحسم” لتحرير سيناء، ثم لم يلبث أن تراجع بسب “ظهور ضباب في المشهد” على حد وصفه. الأمر الذي نجم عنه خروج آلاف المصرين الذين اكتووا بمرارة الهزيمة عام 67 إلى الشوارع، مستنكرين مطالبين بالشروع في الحرب. يومها افتعلت إدارة المخابرات العامة المصرية “فضيحة الفنانات” لإشغال الرأي العام بـ”فلاش” إعلامي بات الشغل الشاغل لمجتمع مصري محافظ ومتدين بطبعه .!! . وقد اتضح فيما بعد أن الموضوع ملفق، وكشف العارفون لاحقاً بان افراد “الشبكة” كنَّ من المتعاونات مع المخابرات المصرية في مهمات اعتادت الأخيرة أن توكلها لبعض المشتغلات في الفن! . ليدفعن ثمن تلك اللعبة القذرة.
أما الأمر الثاني، فنراه في “التوجيه الاستراتيجي لحرب أكتوبر” والذي كتبه السادات بالذات كما ذكر في مذكراته، وقد جاء في بنده الأول أن الهدف من الحرب “إزالة الجمود العسكرى الحالي بكسر وقف إطلاق النار اعتبارا من يوم 6 أكتوبر 1973″، من الواضح أن صاحب هذا التوجيه لا يملك الحدّ الادنى من الرؤية الاستراتيجية لقضايا الحرب والسلام !! . حتى قدم النتيجة، على السبب أي الحرب التي ستقود تلقائيا “لكسر الجمود”، لكنه اثر في الأخير لأن الهدف الاستعراضي من الحرب هو الغاية وهذا يبدو واضحا من النص الملتبس للبند المتصل بتحرير الارض والتي تركها معلقة على تقديرات استنسابية: “تحرير الأرض المحتلة على مراحل متتالية حسب نمو وتطور إمكانيات وقدرات القوات المسلحة”!
السودان – اثيوبيا
مرة أخرى عاد “اقليم حلايب” ليحتل واجهة الأحداث. والرئيس البشير يهدد بعرض القضية على مجلس الأمن. العارفون في بواطن الأمور من مصريين وغيرهم لا يستبعدون تحريضا سعودياً وراء الأمر على خلفيات سنأتي على ذكرها!. المفارقة هنا أن هذا الأقليم الصحراوي القاحل بات “قضية وطنية” في حسابات نظام البشير، فيما قضية انفصال “جنوب السودان” بطوله وعرضه وهو الجزء التاريخي من الوطن السوداني والغني بموارده، هي مسألة “تقرير مصير” في قاموس البشير! فيما كان يجب ان يكون “الجنوب” قضية مصير وطن، وقطعة من جسده فضلا عن ثرواته النفطية والمعدنية والزراعية. وقبلها وشائج قربى ومصالح نمتا على مدى عمرٍ مديد ما بين الأهل هنا وهناك. كل ذلك أدارت له الخرطوم ظهرها لتؤسس إلى غير رجعة قطيعة كاملة لدرجة ترحيل عشرات الآلاف من عائلات جنوبية عاشت عمرها في الشمال؛ أمر فاق توقعات حتى المتأمرين على وحدة السودان!
حلايب اليوم رياح سموم تؤجج نار “وطنية سودانية” مزيفة ومفتعلة وفي غير موقعها، لا هدف لها سوى إلهاء السودانين عن فقرهم وعن أزماتهم التي يضطرب بنارها الشارع كل يوم بشكل احتجاجات واعتصامات جراء نقص الحد الأدنى من متطلبات العيش وها هي الأرقام السودانية تكشف حجم المأساة: 46% من السكان يعيشون تحت خط الفقر. 14% يعيشون في فقر مدقع، ويشير تقرير اممي إلى أن عدد المحرومين في السودان من خدمات شبكة الكهرباء 65%، ومن شبكة الماء الصالح للشرب 43%، ومن شبكة الصرف الصحي 46%. ومؤشرات الفقر إلى زيادة بعد انفصال الجنوب الغني في النفط !! ..
وبعيدا عن الجانب الأخلاقي والقومي في استعداء مصر الشقيق الأقرب للسودان تاريخياً، والشريك العربي في وادي النيل، فإن التبصر في الأمر من زاوية براغماتية بحتة يفضي إلى أنه من الجنون ان تستعدي السودان عمقها المصري وواجهتها نحو النصف الشمالي من الكرة الأرضية، وكل ذلك وهي تواجه حركة تمرد مسلح في دارفور وعلاقات متوترة مع ارتيريا تهدد باندلاع حرب بين الدولتين، فيما علاقتها بمحيطها المجاور في باقي الاتجاهات ليس على ما يرام باستثناء اثيوبيا التي تشترك معها في أذية “سد النهضة” والذي تزعم السودان بانه سيمدها ببعض احتياجاتها من الكهرباء .
كرات ملتهبة
سيكون خطأ جسيما لو تصرفت مصر بالكيفية نفسها، أي بمنطق رد الفعل بما يستدرجها لحروب افريقية، لخصومها القدرة على الإمساك بخيوطها بعد غياب مصر عن هذه القارة لعقود، أولها “اسرائيل” بنفوذها وحضورها، وثانيها السعودية بمالها وهي التي تتطلع لجعل السودان جارتها على الضفة الأخرى من البحر الأحمر منصة للدخول والاستثمار في افريقيا على حساب مصر. وهنا؛ على القيادات المصرية ان تدرك بان “الأمن القومي السعودي” غير المنفصل عن مصلحة نظامها السياسي لا يتفق بوجود مصر القوية، ومنها مزاياها الجيواستراتيجة، هذه عقدة تاريخية منذ ايام محمد علي باشا. وعلى هذا الطريق يجري نزع اوراق القوة المصرية ورقةً ورقة، بعد تليين الموقف المصري الرسمي، والذي بات اكثر طواعية بسياسة العصا والجزرة، اي بين التلويح بالمساعدات من البترو دولار، بمقابل المشاكل الاقتصادية والمديونية العالية وتلبية الحاجات الحياتية من مستلزمات إطعام ملاين المصرين..
وعلى طريق إضعاف مصر التي انتُزعت منها جزيرتا تيران وصنافير!، لتصبح الملاحة في خليج العقبة في قبضة السعودية، وعلى هذا الطريق يضرب الإرهاب في مصر ويستنزفها، ولا حاجة للتذكير بأنه كان ومازال صناعةً “أمركو- سعودية”، وعلى هذا الطريق أيضاً تمول السعودية ” سد النهضة”، وعلى هذا الطريق جرى تشجيع البشير على أمل أن تستحصل السعودية على إقليم حلايب بتحويله إلى “منطقة حرة” مشتركة مع السودان. وعلى هذا الطريق تتقاطع “إسرائيل” مع السعودية. فهما عرابان “لصفقة العصر” الأمريكية حيث أجزاء من “فلسطين الجديدة ” تقوم على ارض سيناء، وإلأ كرات النار جاهزة. “إقليم حلايب”، “سد النهضة”، ” الإرهاب” و”الاقتصاد” كرات ملتهبة في طوق اسرائيلي سعودي يلتف على عنق مصر. كل هذه المشاكل ما زالت مصر تواجهها بكمٍّ من التكتيك قصير النفس على حساب الاستراتيجيا .استراتيجيا ينبغي ان تأخذ خيارات جذرية وشجاعة تقلب الطاولة امام من يتربص بأرض الكنانة الدوائر.
(*) كاتب لبناني