يقول جيمس تراوب، الصحافي ومؤلف كتاب «جون كوينسي آدامز: روح المسلحين»، في مقاله المنشور بمجلة «فورين بوليسي» الأمريكية: «انتهى عصر البراءة في الشرق الأوسط، إن الهدف التقليدي لرؤى السياسة الخارجية هو الآن بمثابة مقبرة مثالية لها».
لقد نشرت الولايات المتحدة كل ما تملك من مقومات، آملة في إعادة تشكيل منطقة مهمة للغاية لتغيير النظام وتعزيز الديمقراطية ومكافحة التمرد والتدخل الإنساني وخطاب حقوق الإنسان وتقرير المصير الوطني.
ما الذي يتعين على الولايات المتحدة إظهاره في كل تلك الاستثمارات، المال والأمل والتفكير؟ الأهم من ذلك بكثير، ما الذي يتوجب على الذين قادوا مصيرهم بأياديهم في مصر والبحرين وليبيا وسوريا والعراق؟ الموت والسجن والرعب، نادرًا ما تشرق خيوط السلام في الشرق الأوسط – سوريا واليمن وليبيا مثلًا – لكن قد تم دفن شعور بأن المستقبل قد يكون أفضل من الماضي،بالإضافة إلى الكثير من الأمور الأخرى.
وجد تراوب نفسه مضطرًا للتفكير في تلك المقبرة عندما قرأ كتاب: «من الرماد: أسس جديدة للأمن في الشرق الأوسط»، وهي مجموعة من المقالات التي نشرتها مؤسسة «القرن» الأمريكية، ويدعو الكتاب إلى التطلع للأمام، لكن فعل القراءة نفسه يجبر القارئ على النظر إلى الوراء، وفي مجموعة مقالات أخرى أصدرت عام 2017 تحت عنوان «السياسة العربية فيما وراء الثورات: تجارب في حقبة الاستبداد الناهضة»، أقرت مؤسسة القرن بانقراض تلك الآمال، وتسأل الآن عما إذا كان هناك شيء يمكن أن يُبنى على قمة تلك المقبرة.
هذا الشيء هو (النظام)، وهو ما يعني العمل بشكل جماعي باسم الأمن الإقليمي، من المثير للسخرية أن منطقة تم قلبها أول مرة بواسطة غزو أمريكي يهدف إلى الإطاحة بديكتاتور مكروه ويسمح للديمقراطية بالازدهار، هي الآن مدعوة إلى تحقيق سلام استبدادي، لكننا نفهم السبب؛ فقد عزز الديكتاتوريون حكمهم في معظم أنحاء المنطقة أسوأهم اليوم هو بشار الأسد في سوريا، والذي قد يكون على بعد أسابيع قليلة فقط من إعادة السيطرة على نحو ثلثي أراضيه، العالم العربي ليس بعيدًا عن العودة إلى وضعه السابق في أواخر القرن العشرين، وإن كان بتوزيع قوى مختلف جدًا، فإن القضية الجوهرية في المستقبل لن تكون حول حقوق الأفراد، ولكن التنافس بين الدول.
يتحدث ترواب بصفته مثابرًا مثاليًا، على الرغم من أنه بالكاد يعتقد أنه الوحيد، لقد ذهب إلى أفغانستان في أواخر عام 2009 ليشاهد عملية مكافحة التمرد (استراتيجية الحد من الأسلحة الهجومية) في منطقة خارج قندهار، واستنتج تراوب من مشاهدته أن استراتيجية الحد من الأسلحة الهجومية كانت فكرة صحيحة لبلد مختلف تمامًا، لقد كانت أفغانستان كبيرة جدًا ومفتوحة للغاية، وغير مستجيبة للسيطرة المركزية، ويظن ترواب أن الرئيس باراك أوباما يتمنى لو أنه أخذ نصيحة نائب الرئيس جو بايدن لحماية المصالح الأمريكية من خلال مكافحة الإرهاب، وترك أفغانستان إلى أجهزتها الخاصة.
في أواخر يناير (كانون الثاني) 2011 عندما اشتعلت أحداث ثورة الربيع العربي في مصر، انتظر تراوب بفارغ الصبر أن يأخذ أوباما جانب الشعب المصري، ويدعو الرئيس حسني مبارك إلى التنحي، وفي النهاية فعل ذلك، عندما وافق مبارك على الرحيل الفوري، وعدم الترشح لفترة رئاسية قادمة، انفجرت مصر بأكملها بالفرح المكبوت. يبدو أن الولايات المتحدة وضعت نفسها في النهاية على الجانب الصحيح من التاريخ في الشرق الأوسط، لكن اتّجاه التاريخ أصبح غير ذلك؛ فقد نصحت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون أوباما بتشجيع التحول البطيء والمنظم. في وقت لاحق كان من الصعب أن يُرى كيف أمكن هذا بإحداث فارق كبير.
يضع هنا تراوب سؤالًا في مقاله هل الاستنتاج الذي يجب أن نستخلصه من هذا الهلاك الرهيب هو أنه هل كان من الأفضل للولايات المتحدة دعم حلفائها الاستبداديين في القرن الحادي والعشرين كما فعلت في القرن الماضي؟ ويجيب بالتأكيد، علمتنا مصيبة العراق – بعد فوات الأوان – سياسة الصبر، وعلمتنا التداعيات الفاشلة للتدخل في ليبيا – مرة أخرى – العواقب غير المقصودة وغير المتوقعة للمغامرات النبيلة، لكن ماذا عن موقف أوباما المبدئي – كما يرآه تراوب – من تقديم مساعدة كبيرة للمتمردين السوريين؟ انتقلت سوريا إلى كارثة أكبر من العراق؛ مما يدل على أن عواقب التقاعس يمكن أن تكون خطيرة جدًا.
لم يشجع التاريخ الحديث الإيمان بأن قوس التاريخ ينحني نحو العدالة كما قال أوباما، ومع ذلك ما زال تراوب يعتقد أنه يجب التصرف كما لو كان الأمر كذلك، لا يندم تراوب على أن أوباما دعا مبارك إلى التنحي، إلا أن كتاب «من الرماد: أسس جديدة للأمن في الشرق الأوسط» يذكرنا بمدى قلة ما يمكننا القيام به لتغيير مصير الأشخاص الذين يعيشون داخل الدول القاسية، ومن غير المرجح (ربما في حالة سوريا) أنه كان بالإمكان إحداث فرق إذا تمت المحاولة.
يطلب كتاب «من الرماد: أسس جديدة للأمن في الشرق الأوسط» رسم خط تحت تلك الحقبة، والنظر إلى السلوك الخارجي للولايات التي خرجت من الاضطراب. وهذا صحيح؛ لأن التنافس الحالي بين القوى الإقليمية من المحتمل أن ينتشر، ربما سيكون هناك فرصة لأشكال جديدة من التعاون الحكومي في الشرق الأوسط، لكن أحد الأسباب التي تجعل الصراع مستوطنًا في المنطقة هو أن الدول العربية لم تقبل ما وصفه هنري كيسنجر في كتابه «النظام العالمي» المبدأ الأساسي لنظام «ويستفاليا».
في الشرق الأوسط ينتشر النظام الشيعي بقيادة إيران الآن في كل من اليمن وسوريا ضد النظام السني الذي تقوده السعودية، إذا كان السعوديون بالفعل ينظرون إلى الزعيم الإيراني آية الله علي خامنئي على أنه المعادل الأخلاقي لأدولف هتلر كما قال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لـ«60 دقيقة»، فإن الأسوأ لم يأت بعد.
يصف بريان كاتوليس، خبير الشرق الأوسط في مركز التقدم الأمريكي، آفاق النظام الإقليمي الجديد بأنه «خافت، وكأنه ليس موجودًا على الإطلاق»، ويوضح كاتوليس تفاصيل الدروس المستفادة من سبعة عقود من الجهود الفاشلة في صنع النظام في المنطقة:
المنافسة الجيوسياسية تتخطى التعاون.
الخوف من السيطرة الجيوسياسية يمنع التعاون الأمني الإقليمي.
تخفي تعاريف التهديد المشتركة.
اختلاف الأولويات والاهتمامات.
يقترح كتوليس خطوات عملية يمكن للولايات المتحدة اتخاذها بما في ذلك منع حلفائها من «ارتكاب أخطاء إستراتيجية كارثية وغير مقيدة» مثل حرب سعودية إماراتية في اليمن.
ليس في منطقة الخليج فحسب، بل في واشنطن أيضًا، يتطلب الأمر تغييرًا جذريًا في العقلية، يقترح بروس جنتلسون، عالم العلاقات الدولية، إعادة صياغة سياسة الولايات المتحدة التي تقدم دبلوماسية لإيران، وتخنق الدعم من أجل الحكام المستبدين «الكاريزميين» مثل محمد بن سلمان، وتقبل شرعية الإسلام السياسي. ومع ذلك أعطت إدارة ترامب تفويضًا مطلقًا للسعوديين في اليمن، وفي حملتهم داخل السنة ضد قطر، في الوقت الذي بدا فيه دونالد ترامب نفسه مستعدًا لمنح السعوديين الهدية المثلى من خلال إبطال الاتفاق النووي الإيراني. على مدى السنوات القليلة المقبلة من المرجح أن تعرقل الولايات المتحدة، عوضًا عن المساعدة في المسعى المهتز جدًا لبناء النظام من الرماد.
يختتم تراوب مقاله: «مع ذلك، هناك شيء آخر نعرفه: النظام لا يستنفد السياسة، بمجرد أن يكون لدى الناس طعم الحرية أو الكرامة، فلا يمكنهم الاحتفاظ بهما إلى الأبد، في النهاية ستشتعل تلك الحرائق مرة أخرى».