أكثر من ثلاثة أسابيع مضت منذ الرابع من آذار، مارس، وهو اليوم الذي عُثر فيه على الجاسوس سيرغي سكريبال، مع ابنته، مغمياً عليهما في مدينة سالزبوري بإنكلترا.
الحادثة التي وصفتها حكومة تيريزا ماي بأنها هجوم إرهابي من تخطيط وتنفيذ روسي، ما أدى لحرب دبلوماسية ضد روسيا ومسارعة قرابة 20 دولة غربية، بينها بعض الدول الأوروبية إلى جانب أمريكا وكندا واستراليا إلى طرد عدد من الدبلوماسيين الروس وهو ما ردّت عليه موسكو بإجراءات مماثلة.
وبالرغم من مرور 3 أسابيع على تلك الحادثة وما رافقها من حرب دبلوماسية غير مسبوقة، إلا أن الحكومة البريطانية لم تقدم حتى الآن أي دليل حقيقي ( صورة أو فيلم موثق) يؤكد صحة ما تدعيه عن قصة سيرغي سكريبال وكيفية تأكدها من ضلوع روسيا في الحادثة، وأيضاً لم تقدم أي رواية دقيقة عن الحالة الطبية لهذا الشخص وابنته، وما هي الإجراءات التي تتخذها وهل قبض على الأشخاص الضالعين في الحادثة أم لا؟ وهل توصلت لندن إلى دلائل حقيقية تؤكد ضلوع روسيا وأجهزة استخباراتها في هذه العملية؟ كل هذه تعدّ أسئلة يجب أن تجيب عليها بريطانيا وتقدمها للرأي العام العالمي بشكل شفاف وواضح، وإلا فهي تثبت زيف ما تدعيه.
وعلى الرغم من أن الاتحاد السوفييتي الذي كان أحد مصادر إنتاج غاز الأعصاب الذي تزعم بريطانيا أنه السلاح المستخدم للتخلص من الجاسوس الروسي، إلا أن المسؤولين الروس أكدوا في وقت سابق أن البلاد قامت بإتلاف كل ما تملكه من هذا الغاز وتم ذلك بإشراف المراقبين الدوليين من الأمم المتحدة، وعليه فإن استخدم مثل هذا الغاز لهدف صغير في بلد ما يمكن أن يضع روسيا في تهمة انتهاك الحظر المفروض على استخدام الأسلحة الكيميائية. وما يلفت الانتباه هنا الاتهامات الغامضة وغير المستندة إلى دلائل علمية واضحة والتي تطلقها بريطانيا كل يوم ضد روسيا، بالإضافة إلى البيانات غير الدبلوماسية التي صرّح بها وزير الدفاع البريطاني ضد موسكو، والتي تخلق أسئلة جديدة حول الغرض الحقيقي للندن من إثارة هذه القضية بهذه الطريقة وإطلاق هذه المزاعم، إذ تحاول لندن تكبير قصة الجاسوس الروسي وتوجيه الرأي العام العالمي ضد موسكو بطريقة غريبة وغير مسبوقة، ما يؤكد حقيقة أن لندن تسعى لتحقيق أهداف أخرى في هذا السيناريو، نظراً لعدم تفاعل لندن القوي مع روسيا لتوضيح القضية وسعيها الدائم للمراوغة ورفض أي تعاون مع موسكو في هذا الإطار، ما يساعد في تعزيز فرضية السيناريو الذي تدعيه بريطانيا، ولكن ما هي الأهداف الحقيقية لإنكلترا من هذه القضية؟.
تأثير قضية “البريكست” على التوتر بين لندن وموسكو
تشكل قضية “البريكست” وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تحدياً قوياً للندن، إذ إن القضية ستقوّض موقف بريطانيا في المنظمات والمؤسسات الدولية، بما في ذلك حلف الناتو، ولكن عملية الطرد الجماعية للدبلوماسيين الروس على خلفية تسميم العميل الروسي مثّلت نصراً دبلوماسياً مهماً لرئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي رغم التوتر مع شركائها في الاتحاد الأوروبي بسبب بريكست، فخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سيلزم ألمانيا وفرنسا بالحفاظ على الاتحاد الأوروبي، وستقومان بدفع رسوم العضوية التي كانت قد دفعتها إنكلترا إلى الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي سيؤثر إلى حد ما على اقتصاد البلدين ( ففي عام 2016، أنفقت بريطانيا ما يقرب من 16 ٪ من ميزانية الاتحاد الأوروبي).
كما تشعر الدول الأوروبية بالقلق من أنه بعد خروج بريطانيا بشكل رسمي من الاتحاد الأوروبي، ستسعى بعض الدول الأوروبية الأخرى إلى إجراء استفتاء مماثل تمهيداً للخروج من الاتحاد الذي سيكون في وضع محرج، وفي النهاية فإن الأمر سيشكل بداية الانهيار للاتحاد. لذلك فإن لندن اختارت تغطية بعض التعقيدات في قضية خروجها من الاتحاد باختيار روسيا التي تربطها بالاتحاد الأوروبي علاقة متوترة منذ وصول الرئيس بوتين إلى سدة الحكم في موسكو وافتعال هذه القضية معها.
المبارزة الروسية الأوروبية
لطالما سعت روسيا إلى استعادة دورها العالمي كقوة عظمى ودور فعال أكثر في مجلس الأمن، ونظراً لموقعها الجيوسياسي، فهي دائماً في مركز التوتر والانتباه. ففوز بوتين في الانتخابات الروسية الأخيرة يعني استمرار سياسة روسيا المستقلة في الفترة الرئاسية الرابعة للقيصر الروسي وقد أصبحت هذه القضية أكثر بروزاً بعد نجاح روسيا في سوريا.
كما تتخذ روسيا مفهوماً جديداً للأمن مع البلدان الأخرى القريبة من الجمهوريات السوفيتية المستقلة حديثاً وتسعى جاهدة للتقليل من تأثير الغرب والناتو في أوروبا الشرقية. كما تعتبر أوكرانيا تاريخياً واستراتيجياً مجالاً مهماً بالنسبة لروسيا لتعزيز أو إضعاف دورها، وعلى الرغم من ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، لا تزال موسكو تحاول الحدّ من التوتر مع الاتحاد الأوروبي والتأكيد على دورها التاريخي في روسيا القيصرية بالتعاون مع أوروبا، ولكن الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو) منزعجان من الدور الروسي المتعاظم لذلك يستخدمون أي حجة للضغط على روسيا لوقف توسع نفوذها وإن الضغط هذه المرة يبدو منظماً بشكل أكبر بعد تمكّن بوتين من الظفر بولاية رئاسية رابعة.
ماذا بعد وإلى أين تتجه القضية؟
بعد 18 عاماً من تفكك الاتحاد السوفيتي وتراجع دور روسيا بشكل كبير، فإن الكرملين اليوم بقيادة بوتين يسعى إلى استعادة الدور الجيوسياسي لموسكو. على سبيل المثال، الدور الروسي المتعاظم في الأزمة السورية ونجاح التدخل الروسي في دعم حليفها الأسد وتعزيز قبضتها على أرجاء واسعة من البلاد، بالإضافة إلى الدور الكبير لروسيا الذي تلعبه في أفغانستان، وهناك إمكانية للتحالف الروسي الصيني، وهو يشكل إنذاراً خطيراً للغرب. ويمكن أن ينتشر إلى نقاط استراتيجية أخرى، وعليه فإن الدول الغربية لا يمكن أن تستمر في ممارسة الضغط على روسيا (التي تعدّ من أكبر منتجي النفط والغاز الذي تحتاجه الدول الأوروبية) لفترة طويلة، وخط بوتين الأحمر هو عودة روسيا كقوة عظمى وتجنب أي سياسة تؤذيها في هذا المجال. لذلك، فإن الدول الغربية تسعى في الحقيقة إلى تهديد هذا الخط الأحمر، وهو الخيار الذي أقام بوتين على أساسه سياساته منذ عام 2002، وهو ما يفسر عدم المرونة التي تعاملت بها روسيا مع طرد دبلوماسييها ولجأت فوراً إلى الرد بالمثل وما يمثل عملياً بداية عهد الحرب الباردة الجديدة وانخفاضاً طفيفاً في العلاقات بين روسيا والغرب.
(الوقت التحليلي)