تحقيق خاص: وكالة الصحافة اليمنية//
مع ارتفاع أعداد المرضى اليمنيين بسبب الظروف التي فرضتها الحرب والحصار الذي أحكمته دول التحالف على اليمن _ تكاثرت عيادات ما يسمى بـ “طب الأعشاب” ، وبشكل غير مسبوق وجد أولئك الأطباء مناخ مناسب في ظل ضعف أجهزة الرقابة والمؤسسات الحكومية، فجأة ظهروا بأعداد كبيرة في شوارع العاصمة صنعاء وغيرها من المدن اليمنية وكأنهم هبطوا من السماء لإنقاذ المرضى الذين عجزت المستشفيات عن مداواة جراحهم، بدون مؤهلات وبدون تراخيص وبدون مباني أو أدوات وأجهزة طبية قرروا استثمار حالات الناس السيئة وممارسة كذبهم ودجلهم على مرأى ومسمع من الجميع، والجميع في الحقيقة مشغولون بالبحث عن إجابات لأسئلة كثيرة عن أسباب الحرب والحصار وصمت المجتمع الدولي ومن المسئول عن قطع المرتبات وارتفاع الاسعار وغيرها من الأسئلة الملحة، ولم يخطر على بالهم أن يسألوا عن مؤهلات وخبرات هؤلاء الأطباء الشعبيين الذين حولوا منازلهم الى عيادات تجارية يبيعون فيها للمواطنين علاجات وهمية قد تشكل خطراً ليس بأقل من خطر الكوليرا والدفتيريا معاً.
فوائد ومضار
وبالرغم من أن الدراسات العلمية أثبتت خطورة تعاطي المرضى للأعشاب وأكدت أن نسبة فوائد ومضار العشبة تختلف باختلاف نوعية التربة المزروعة فيها وتختلف كذلك بارتفاع المنطقة عن سحط البحر، إلا أنك إذا ما تنقلت بين الإذاعات المحلية التي يتجاوز عددها العشرين إذاعة تتفاجئ بكم هائل من الإعلانات، ليست من تلك الاعلانات التي اعتدت على سماعها منذ زمن عن العصيرات والغسيل ومعجون الاسنان، فاليوم تسيطر على الموجات الإذاعية إعلانات من نوع واحد ألا وهي الاعلانات الخاصة بالطب البديل أو “أطباء الأعشاب”.
وفي الآونة الآخيرة وجد من يسمون أنفسهم بـ “أطباء الأعشاب” بيئة خصبة ومناسبة لمزاولة كذبهم ودجلهم على المواطنين، خاصة مع ازدحام المستشفيات الحكومية والاهلية والمراكز الصحية بالمرضى الذين تضاعفت أعدادهم بسبب الحرب والحصار الذي تفرضه دول التحالف على اليمن منذ ثلاث سنوات.
20 إذاعة ..20 طبيب شعبي
أكثر من عشرين إذاعة محلية وأكثر من عشرين طبيب شعبي من أسرة “الضُمين” فقط، يتنافسون على استقطاب الأمراض في العاصمة صنعاء وبقية المدن والقرى اليمنية، ويعيشون صراعاً فيما بينهم للسيطرة على سوق “الطب البديل”، فما إن يقوم أحدهم بفتح مركز له في مدينة ما حتى يسارع واحد أو اثنين من أبناء عمه أو اخوه أو والده الى فتح مركز آخر في الشارع المقابل له.
كشف عبر الأثير
وفي خضم المنافسة بين أطباء الاعشاب أقدم أحدهم على الكشف عن أسماء بعض الشجيرات عبر أثير الاذاعات وتقديم وصفات مجانية للمرضى الذين يتواصلون معهم عبر الأثير بحيث يقوم المرضى بأخذ الشجيرات من مناطقهم ومعالجة أنفسهم بأنفسهم، وهو الأمر الذي يسبب أضرار بالغة في صحتهم بحسب ما أكدت الدراسات العلمية الطبية التي قالت أن الأعشاب تحتوي على نسبة من الفوائد الطبية غير أنها لا بد أن تخضع للتحليل والتعديل بواسطة الأجهزة الطبية الحديثة على أن يتم تجريبها أولاً على بعض الحيوانات مثل الفئران وغيرها.
لم يقف الصراع بينهم على السيطرة على الشوارع والجولات الرئيسية فحسب، بل امتد الصراع بينهم الى مستوى أعلى من ذلك، لتستضيف الإذاعات المحلية المتعطشة للإعلانات جولات مفتوحة من الصراع فيما بينهم عبر الأثير ومباشرة على شاشات التلفزيون وبساعات بث مفتوحة.
ساعة بث مباشرة
ففي الوقت الذي كان فيه محمد عبدالسلام الضُمين قد استأجر ساعة بث مباشر في قناة اليمن اليوم مثلاً للترويج للأعشاب التي يزعم بأنها قادرة على علاج كل الأمراض وعرض بعض الشهادات التي يدلي بها بعض من مرضاه الافتراضيين، والتحذير من الأطباء الذين لا يكف عن التحذير منهم والتأكيد على أنهم ينتحلون شخصيته _ فإن ابن عمه عبدالحميد الضُمين كان يبث عبر أثير إذاعة “يمن إف إم” ولأكثر من ساعة ونصف، قدَّم فيها نفسه للمستمعين بأنه “امبراطور الأعشاب” وشهد له بذلك كل من مدير الإذاعة “ماجد يزبك” الذي أكد على أن الرجل يشفي كل الأمراض بما فيها العُقم، كما وأقسمت المذيعة المناوبة في الاستديو بأن شعر رأسها قد ازداد طولاً ولمعاناً بعد أن استعملت احدى الوصفات التي حصلت عليها من الضُمين نفسه.
الحقيقة من الميدان
بدورنا في وكالة الصحافة اليمنية قررنا النزول الى الميدان للتأكد من حقيقة ما تبثه القنوات والإذاعات، وبمجرد أن استقلينا تاكسي الى عيادة محمد عبدالسلام الضُمين أخبرنا سائق التاكس وهو أحد جيران الطبيب بأن الرجل “كذّاب ونصاب” وأنه لا يدري كيف يقتنع الناس بأنه طبيب ولا لماذا يقصدونه، واصلنا المشوار حتى وصلنا الى منزله الذي هو “عيادته في نفس الوقت”، فلة ضخمة ذات أسوار شاهقة وبوابات بمواصفات أوروبية، تم استحداث مكتب أمام أحدها لأحد معاوني الطبيب الذي يعمل كسكرتير خاص بالضُمين ولا يسمح بدخول حوش العيادة إلا بعد دفع ألف ريال كرسوم لا ندري ماذا يسمونها بالضبط “حق معاينة أم تذكرة سياحية” الى حديقة منزل الطبيب.
وبعد أن تجاوزنا البوابة الرئيسية ولجنا الى الحوش “الحديقة” التي وجدنا فيها عدة أنواع من الأشجار والشجيرات، لكن المفاجئة أننا لم نلحظ وجود أي مريض وكان الطبيب لم يستيقظ بعد والساعة حينها الـ11 والنصف صباحاً، غير أن الحوش كان شبه ممتلئ بالمصورين والممنتجين الذين تقاسموا عدد من الطاولات منهمكين بإخراج الحلقات الإعلانية الخاصة بالضُمين والتي يتم بثها عبر أثير عدد من الإذاعات المحلية.
حوش الطبيب “النائم”
ولأننا لم نجد أي جدوى من البقاء في حوش الطبيب “النائم” انسحبنا الى الخارج في محاولة للحصول على بعض الأجوبة من المارة أو الجيران، دفعنا الفضول لطرح سؤال على أحد أفراد حراسة منزل الطبيب الذين يتجولون في الشارع ” أين المرضى يا فندم؟”… فسارع بالتبرير أنها مصادفة عجيبة ألا يكون ذلك اليوم بلا أمراض، والتأكيد على أن الأمراض يملئون الشارع كل يوم وأن الكثير من المرضى يشهدون له بالكفاءة والنجاح.
وأضاف الجندي “م. ع ” هامساً _ هل تعرف من الذي زار “الدكتور” قبل اسبوع ؟… قلنا له من ؟
فذكر لنا اسم شخصية سياسية هامة، لكنه لم يحدد لنا لماذا قامت تلك الشخصية بزيارة الطبيب، هل جاء للعلاج أم أنه زاره للتعارف.
رجل خير.. وكذاب
أما أحد اصحاب البقالات المجاورة لمنزل الطبيب فأشار الى خزان مياه وسط الشارع ليؤكد لنا بأن ذلك الخزان “سبيل” وأنه واحد من ثمانية خزانات في الحارة تم نشرها على نفقة الطبيب، وعندما سألناه ما علاقة ذلك فأجاب بقوله “بس اشتي أقلكم إن الضُمين رجل خير”.
وقبل مغادرة المنطقة استوقفنا أحد أبناء الحارة فضل عدم ذكر اسمه، وبمجرد أن عرف أن مهمتنا صحفية نصحنا بانتظار الدكتور حتى يستيقظ وأنه سيسر كثيراً بزيارتنا، وأكد على أن الطبيب كريم جداً مع من أسماهم بـ “رجال الصحافة”، فأجبناه بأننا نعرف ذلك ولو لم يكن كريما مع رجال الصحافة لما توقفت الإذاعات والشاشات عن مناقشة قضايا المواطنين والاكتفاء بالترويج له ولأمثاله من تجار العشب.
وأثناء عودتنا فتحنا الحديث مع أحد المواطنين “محمد علي الوصابي” الذي قال بأن الضُمين “كذاب”، وذكر بأنه قبل حوالي عشر سنوات أعطاه مبلغ عشرة آلاف ريال مقابل علاج قال أنه سيؤجل عملية الحمل عند زوجته لكنه تفاجأ بأن زوجته حملت بشكل أسرع مما كانت عليه قبل استخدام العلاج.
اليمن اليوم ..أول المروجين؟!
وبحسب أحد العاملين في مركز الحكمة اليمانية فإن الضمين وجد طريقه الى اذاعة يمن اف ام وشاشة قناة اليمن اليوم بعد “صادفه الحظ” في معالجة العميد أحمد علي عبدالله صالح قبل حوالي ٤ سنوات، وقال أن العميد كان يعاني من برص “بهاق” في وجهه وبعد أن أعطاه الضمين نوع من الأعشاب زال ذلك البهاق من وجهه.
وبوساطة مباشرة من العميد أحمد علي استطاع الضمين أن يظهر على قناة اليمن اليوم واذاعة يمن اف ام كطبيب محترف وانتقل من مرحلة توزيع الاعلانات بطريقة سرية أمام المساجد وبعض الجولات كطبيب شعبي بدون مؤهل وبدون ترخيص وبدون ضمانة الى مرحلة متقدمة انتزع فيها ساعات بث كاملة يوميا في اعلام المؤتمر الشعبي العام الذي كان يتحكم فيه نجل الرئيس الاسبق العميد أحمد علي.
ولم يؤثر ظهور الضمين في وسائل اعلام المؤتمر على نسبة معينة من المواطنين فقط.. بل أثر على بقية الوسائل والوسائط الاعلامية اليمنية بشكل عام وحتى الرسمية منها، والتي راحت تفسح له ولأمثاله من أدعياء الطب الشعبي مجالا كبيرا لخداع المواطنين وإيهامهم بأن لديهم تراخيص من وزارة الصحة وشهادات من الاتحاد الاوروبي وغيره.
دراجة نارية توزع الأعشاب على أكثر من طبيب؟!
في اليوم الثاني قررنا زيارة أحد أطباء الأعشاب من خارج أسرة الضُمين، واتجهنا الى مركز للطب البديل يديره أحد أبطال الإذاعات ويدعى “العروسي”، ولأننا وصلنا الى المركز الذي هو “منزل العروسي في نفس الوقت” باكراً فقد صادف دخولنا الى الحوش مع وصول دراجة نارية تحمل على متنها رجلان محملان بمجموعة من الأكياس والـ “شوالات”، وبعد أن انضما إلينا فوق احدى الطاولات المهترئة المخصصة للانتظار اكتشفنا بأن الرجلان يقومان بتوزيع نوعيات من الأشجار لعدد من أطباء الأعشاب في العاصمة صنعاء، أجرى أحدهما مكالمة مع العروسي أخبره بأنه ينتظره في الحوش وأنه مستعجل لأن هناك أطباء آخرين بانتظاره.
استطعنا فحص بعض العينات التي بحوزة “موزِّع الأعشاب” القادم من منطقة خولان وعرفنا بأنها من أشجار تدعى في بعض الناطق اليمنية “عَرعَر” يتم استخدام أغصانها كمكانس في القرى، وكانت قديماً تستخرج مادة “القطران” من جذورها الضخمة، وبينما كنا نتبادل الحديث معهما دخلت امرأتين باب الحوش والضحكة تسابقهما الى المركز لتضع علينا سؤالاً ربما شغلها طوال الطريق ” تقولوا هذا الرجال بيعالج ولا بيكذبوا علينا في الإذاعة”؟
احترنا في الرد عليها لكن “موزِّع الأعشاب” امتشق اجابة سريعة ليؤكد لها بأنه طبيب متمكن ومُجرَّب وأنه صاحب أخلاق.
اكملت المرأتان طريقهما الى احدى الغرف العادية المخصصة للنساء داخل المركز وبعد أن استيقظ الطبيب تم استدعائنا ودخلنا لمقابلته نحن و “موزِّع الأعشاب” الذي على عجلة من أمره، ونتيجة لتلعثم الطبيب اكتفينا بمشاهدة كيف يتعامل مع المرضى وكيف يقوم بتشخيص المرض وما العلاج الذي يعطيهم، ولاحظنا أنه يقوم بطرح أسئلة عادية على المرضى ومهما كانت إجاباتهم ومهما اختلفت الأمراض التي يشتكون منها إلا أنه كان ينهي المقابلة بصرف نفس النوع من العلاج “الأعشاب” لكل المرضى، علبتين يسمي احداهما “زيت” والأخرى يسميها “مرهم” وكيسان صغيران يسميهما “مسحوق”.
يطلب العروسي من أخوه الصغير الذي يؤدي دور “الصيدلاني” أن يعطي المريض وصفة معينة وكل مرة يأتي أخوه بنفس العينة من العلاج، ليقوم العروسي بكتابة طريقة الاستعمال في ورق ملصقات صفراء ومن ثم يلصقها بالعلب والأكياس، ومن ثم يطلب مبلغ من المال وينصح المريض بأن يعود لزيارته إذا لم ينفعه العلاج وذلك لكي يصرف له جرعة أخرى من نفس العلاج.
الاستفادة من “الصدُف”
ويستفيد أطباء الأعشاب على بعض المصادفات، فإذا ما شفيت حالة من الحالات صدفة فإن تلك الحالة تتحول الى وسيلة ترويج ناجحة تعود على الطبيب بفوائد كبيرة وخاصة في المناطق الريفية، فبمجرد أن يسمع أبناء الريف عن ذلك الطبيب من أحد أبناء منطقتهم ينطلقون إليه بالعشرات باحثين عن الشفاء.
ذهبنا الى وزارة الصحة لطرح بعض الأسئلة على المسئولين عن طب الاعشاب فتفاجأنا بعدم وجود أي إدارة أو قسم مختص بالطب البديل أو مسئول للإشراف عليه، ونفى الدكتور عمر العريقي أن يكون لوزارة الصحة أي علاقة بأطباء الأعشاب مؤكدا في نفس الوقت أن الوزارة تسعى لمحاربة أولئك الأطباء، غير أنه يعتقد بأن هناك جهة ما تدعمهم وإلا لما استطاعوا أن يتكاثروا بكل هذه البساطة ولما استطاعوا أن يعملوا بدون تراخيص من الجهات المسئولة وبدون إشراف عليهم من أي جهة حكومية أو طبية.
السر في “المهدئات”..!
وأكد المصدر في وزارة الصحة بأن أطباء الاعشاب يستخدمون نوع معين من الاشجار المهدئة في كل الوصفات التي يقدمونها بحيث يشعر المرضى بنوع من الشفاء المؤقت ما يدفعهم لمنح أولئك الأطباء ثقتهم وحث الآخرين على التداوي لديهم.
ووفقاً لتقديرات طبية فإن 80% من المرضى الذين يرتادون مراكز طب الأعشاب هن من النساء، و20% من الرجال.
ويعود السبب الذي ساهم بشكل كبير في إقناع النساء بطب الاعشاب_ الى ارتفاع نسبة الأمية في أوساط النساء أكثر من الرجال، وهو الأمر الذي جعل منهن أكثر عرضة لأضرار الأعشاب.
ولوحظ أن الأسر الأكثر ميلاً للتداوي بالأعشاب هي تلك التي دخلها المالي محدود أو شبه منعدم، ونظراً لتدني السقف المالي لديها تعجز عن زيارة المستشفيات والأطباء والعيادات المتخصصة.
الى ذلك يوجد أيضاً مرضى من ذوي الدخل المرتفع يقصدون أطباء الاعشاب نتيجة لأمراض مزمنة أو غريبة يعانون منها ولم يجدوا لها علاج في المستشفيات المحلية والخارجية خاصة الذين يعانون من العُقم.
ويعتمد أطباء الاعشاب على استهداف شريحة النساء أكثر من الرجال وذلك عبر بث إعلانات مطولة في الاذاعات المحلية التي من المعروف أن معظم المستمعين لها هن النساء خاصة في المناطق الريفية.