قال المعلق ماكس بوكس بمقال بصحيفة “واشنطن بوست” إن طالبان هزمت أمريكا ولتبدأ الآن لعبة التلاوم. فبعد سقوط جنوب فيتنام في 1975 اندلع نقاش حاد حول من خسر حرب فيتنام.
فالبعض في الجيش والحزب الجمهوري آمنوا بأسطورة “الطعن بالظهر” حيث ألقوا اللوم على السياسيين والإعلام الذين اتهموا بأنهم منعوا الجيش من هزيمة جيش شمال فيتنام. لكن الليبراليين من جهة أخرى ناقشوا أن هذه حرب لم يكن على الولايات المتحدة خوضها ولم تكن قادرة على الانتصار بها.
ولم تتم خسارة الحرب في أفغانستان بعد، إلا أن تقدم حركة طالبان بدأ النقاش حول “من خسر أفغانستان؟”، فالجمهوريون الذين تجاهلوا أن دونالد ترامب هو من بدأ عملية الانسحاب يلقون اللوم على الرئيس جوزيف بايدن فيما وصفوها بـ “الكارثة التي تتشكل”. لكن بايدن دافع عن نفسه الأسبوع الماضي وقال إن الأمريكيين حققوا ما أرادوا تحقيقه من أهداف. أي “ملاحقة الإرهابيين الذي هاجمونا في 9/11 والاقتصاص من أسامة بن لادن” و “بات الأمر بيد شعب أفغانستان وتقرير الحكومة التي يريدونها”.
وقفز الجنرال المتقاعد أتش أم ماكماستر، مستشار الأمن القومي السابق وحمل الإعلام اللوم “الذي لا يهتم والإنهزامي” والذي خلق “الظروف للاستسلام”. وناقش المعلق الليبرالي في شبكة “أم أس أن بي سي” مهدي حسن بأن “الغزو الأصلي كان مثيرا للغضب، نظرا لعدم وجود أي أفغاني على متن الطائرات الأربع” في هجمات 9/11.
ويكفي القول إن هناك الكثير من اللوم الذي سيتم تداوله، والذي يمكن تذكره عن أكبر حرب بعد حرب فيتنام- والتي خسرتها الولايات المتحدة.
ولكن يجب ألا يترك الأمر للإعلام وماكماستر الذي كتب مرة أن “حرب فيتنام لم يتم خسارتها على صفحة “نيويورك تايمز” والأمر صحيح بالنسبة لأفغانستان. والأخبار السيئة تعكس الواقع ولا تخلقه. واللوم الحقيقي يقع على كاهل السياسيين الأمريكيين والجنرالات- الأمريكيين والأفغان على حد سواء”. وارتكب عدد من الرؤساء الأمريكيين الكثير من الأخطاء التي كان جورج دبليو بوش محقا في شنها. فمن أفغانستان نبعت الهجمات، حتى ولم يشارك أي أفغاني في العمليات. ولكنه كان مخطئا بشن حرب اختيارية في العراق. وتبنى باراك أوباما على مضض سياسة محدودة من زيادة عدد القوات وشجع طالبان على الانتظار كي يخرج الأمريكيون. أما ترامب فقد تفاوض على اتفاق لم يطلب من طالبان أي شيء مقابل خروج القوات الأمريكية. وبدلا من إشارة بايدن إلى أن طالبان فشلت في كسر العلاقات مع القاعدة مضى سريعا في سحب القوات، رغم احتمالات عودة أفغانستان مرة أخرى إلى ملجأ للإرهابيين.
فشل امريكي
ولا يمكن ألا نلوم الجيش الأمريكي عن هذه الهزيمة. فقد كشفت “أوراق أفغانستان” التي نشرتها صحيفة “واشنطن بوشت” أن القوات الأمريكية فشلت “ببناء جيش أفغاني قوي وقوات شرطة” أو الكشف عن المسار السيء للحرب الجديدة.
وكان ما فعله الجيش الأمريكي خداعا للنفس أكثر من كونه كذبا مقصودا. فحس التفوق لدى الجيش جعله ميالا للحديث عن الإنجازات والتقدم بدلا من التركيز على المشاكل المستشرية. ورغم أداء الساسة والجيش الأمريكي السيء إلا أن أداء الأفغان كان أسوأ. والسبب الذي يقف وراء انهيار القوات الأفغانية في وجه طالبان والذي يذكر بانهيار القوات العراقية في تنظيم الدولة عام 2014 هو غياب القيادة والفساد. وأخبر وزير مالية أفغاني سابق صحيفة “نيويورك تايمز” أن” سوء الإدارة قادنا إلى المستوى الذي وصلنا إليه اليوم”.
ومع اقتراب طالبان من أبواب العاصمة تتناحر النخبة بين نفسها بدلا من الوحدة وإنقاذ الأمة. وفي ظل عجز النخبة السياسية وفسادها ربما كان مغريا غسل اليدين من أفغانستان وتركها لقدرها، كما يفعل بايدن الآن، حيث اقترح أن أمريكا عملت ما بوسعها والأمر بيدهم. ولا منطق في هذا الكلام، لأن أمريكا في أفغانستان متواطئة في سوء الإدارة، تماما كما فعلت مع جنوب فيتنام. فقد ضخت أمريكا وعلى مدى 20 عاما مليارات الدولارات لأفغانستان وعقدت صفقات مع امراء حرب مشبوهين، مما أدى إلى تقوية المحتالين وتحويل القوات الأفغانية لتابع أمريكي.
هزيمة واشنطن
وكان الانسحاب الأمريكي المفاجئ مضرا للطيران الأفغاني لأن امريكا لا تسحب دعمها والغطاء الجوي له ولكن المتعهدين الذين يعتمد عليهم الطيارون الأفغان، ومن خلال الخروج فإن أمريكا لا تعطي الشعب الأمريكي فرصة للحكم كما يقول بايدن، بل ومنح تمردا وحشيا الفرصة لاضطهادهم.
وبعد الاستثمار الطويل في أفغانستان فلا يمكن لأمريكا تجنب المسؤولية عن مصيرها، وفي عام 1975 قال عقيد أمريكي لعقيد من جيش شمال أفغانستان “تعرفون أنكم لا يمكن هزيمتنا في ساحة المعركة” ورد نظيره ” قد يكون هذا صحيحا، ولكنه ليس مهما”. ونجح المتمردون من خلال هزيمة عدو أقوى منهم ولكن البقاء بعد رحيله، وهو ما فعلته طالبان التي لم تهزم بعد حكومة كابول بل وهزمت الحكومة في واشنطن.
ولتبدأ الاتهامات والاتهامات المتبادلة ولو كانت فيتنام مثالا فلعبة التلاوم في أفغانستان ستستغرق النخبة الأمريكية لعقد قادم.