استطلاع/عبدالكريم مطهر مفضل/وكالة الصحافة اليمنية//
واحدة من أقسى المحن الإنسانية التي شهدتها اليمن لأطفال أبرياء قضوا نحبهم بحُقن ملوثة كان من المفترض أن تكون عوناً لهم في الصمود امام طغيان المرض الخبيث الذي يجري في عروقهم الهزيلة ليل نهار، والأشد قساوة في تلك المحنة وفاة أب قهراً على فقدان نجله الوحيد في غمضة عين.
كأنما هو سباق بين الحبر والدمع وأنا أرصد قصة أحد أكثر أسر الضحايا مأساة وذلك في إطار مهمة البحث عن المزيد من تفاصيل الفاجعة التي هزت مشاعر اليمنيين.
رائحة الموت
عاصفة الموت تطال أب مات قهراً على أبنه الوحيد في كارثة أطفال اللوكيميا .. قصة حقيقية يروي تفاصيلها الموجعة الحاج أحمد أحمد سويد عم الطفل الضحية هاشم محمد أحمد سويد بكل الم وحسرة وقهر قائلاً: الطفل هاشم ابن أخي محمد لم يتجاوز عمره 14 عاماً هو الولد الذكر بين ثلاث فتيات تعرض مُنذ سنتين لمرض سرطان الدم والحمدلله بدأ في التعافي من المرض حيث تم علاجه مبكراً في المراحل الأولى للمرض ولم تكن حالته خطرة حيث كان علاجه يقتصرعلى الحبوب، وليس حقن وكان يتم استلامها من صيدلية مستشفى الكويت العام.
فرحة بطعم العلقم
عندما يرزق الرجل طفلاً وهو في سن الأربعين بعد سنوات حرمان طويلة يستعيد طفولته مع مولوده ويعود طفلا يكتشف معه الاشياء الصغيرة التي عاشها في المهد بشغف وسعادة لا توصف، إلا أن معاناة اليمنيين جراء الحرب والحصار التي حولتهم إلى أكبر أزمة إنسانية في العالم حرمت الكثير من أولئك الآباء، أن يعايشوا تلك الأحاسيس الجياشة مع فلذات أكبادهم بعد أن قرروا الاغتراب في الخارج بحثاً عن لقمة العيش لأسرهم، الحاج أحمد سويد يستكمل سرد قصة الحلم والألم والقهر التي عاشتها أسرته قائلاً: ظل أخي محمد يحلم أن يرزق بمولود ذكر بعد إنجاب 3 فتيات وكانت فرحته لا توصف حين رزقه الله بمولود اسماه هاشم، ومع تكالب الحياة قرر الاغتراب في السعودية بحثاً عن فرصة عمل توفر لولي عهده هاشم حياة كريمة تاركا أسرته في رعايتنا أنا وأخي الأصغر نجيب.
التغلب على الداء الخبيث
عاش الطفل هاشم حياته مع مرض سرطان الدم وهو في سن الثانية عشر من عمره، ولديه عائلة تُحبّه وتفعل له كل ما في وسعها لمنحه حياةً رغيدة وسعيدة وكانت أسرته توفر له كل وسائل الراحة وتدعمه في لعب كرة القدم مع أطفال الحي وفي الذهاب إلى المدرسة، وفي الوقت نفسه رأت والدته وأسرته أن ابنها المحبوب والغالي على قلوبهم، قادر على التغلب على الداء الخبيث وبإمكانه فعل ما يفوق التوقعات، لذا قررت الأسرة اغتنام كل فرصة تتيح لهاشم حياةً طيّبة تعينه في صراعه مع الداء الخبيث، وقد سارعت الأسرة بتسجيله ضمن أطفال اللوكيميا في مستشفى الكويت بصنعاء، حيث أعطى له حبوب دوائية لكون حالته لا تزال في مراحلها الأولى، ولا تستدعي الحقن الكيماوية.
يقول الحاج أحمد: تمكن هاشم فعلاً من التغلب على الداء الخبيث وتشأفي منه بعد عامين من مواظبته على العلاج، حيث أظهرت أخر الفحوصات الطبية التي أجريت له أن نسبة الدم 12، وحينها قرر الأطباء أن يأخذ هاشم جرعة واحدة إضافية من باب الاحتياط، وكانت سعادتنا الغامرة لا يمكن وصفها وأبلغنا أباه في السعودية بالخبر السار، وفرح أخي محمد بذلك وقرر العودة إلى الوطن ليشاركنا الفرحة ويرى إبنه الوحيد بعد الشفاء والتعافي.
بداية فصول المأساة
عندما كانت الفرحة تغمر البيت بشفاء الولد وعودة الوالد، تلقت الأسرة في يوم الأربعاء، اتصالاً من المستشفى، أكدوا خلاله بحسب الحاج أحمد سويد ” أهمية أن يأتي هاشم للمستشفى السبت القادم للحصول على الجرعة الأخيرة الاحتياطية، وفي صباح يوم السبت 24 سبتمبرالماضي خرجت للشارع وكان هاشم يلعب مع أبناء الحي كرة القدم وأخذته للمستشفى، إلا أنني تفاجأت بأن الطبيبة أخبرتنا أن الدواء الذي يستخدمه هاشم لم يعد متوفر لدى صيدلية المستشفى بفعل الحصار وطلبت منا أن نشتري حقنة من صيدلية أمان الحديثة المملوكة للمدعو كرمان امام مستشفى الجمهوري إلا أن أحد آباء المرضى من أبناء محافظة ذمار أخبرني أنه اشترى الحقنة وهى جرعة تكفي لعدد 4 أطفال وأخبرني بأنه سيمنح أبننا هاشم الجرعة مع أبنه.
حقل تجارب
بعيداً عن تجاذبات القضية وتبادل التهم بشأن الجهة أو الأشخاص الذين تقع على عاتقهم المسؤولية في كارثة أطفال اللوكيميا يبقى السؤال الأهم كيف تعامل الأطباء مع أطفال اللوكيميا قبل الكارثة معتمدين على مبدأ التجربة والمغامرة بأرواح العشرات من الأطفال الأبرياء دون الالتفات لمشاعر الأب والأم المفجوعين على فقدان حياة أغلى ما لديهم.
توقف الحاج أحمد لوهلة بعد أن احتبس الكلام في صدره وبعد تنهيدة عميقة تابع قائلاً: “بلغ بنا الريب والخوف أشده كما يبلغَ السَّيْلُ الزُّبَى بعد أن أخبرتنا الطبية أن عملية حقن أطفالنا بهذه الحقنة هي بمثابة مغامرة كبيرة إلا أنه ما باليد حيلة، لكون كلامها هذا لم تقله لنا إلا بعد أن تم حقن أطفالنا”.
وأضاف الحاج أحمد، أصرت الطبيبة أن نذهب لهذه الصيدلية بالذات بعد أن تأكدت حسب قولها من أن العلاج قد وصل إليها من عدن.
وعند سؤالنا للحاج أحمد، عن اسم الطبية وأين يمكن أن نجدها أخبرنا الحاج أحمد، أنه لا يعرف اسمها وبأنها اختفت مًنذ ذلك اليوم.
تابع العم أحمد، خرجنا من مستشفى الكويت وعدنا إلى البيت حينها أخبر هاشم والده محمد أنه أخذ الحقنة الأخيرة له وبأنه تعافي بشكل كامل من الداء الخبيث، وفعلاً كانت الحقنة الأخيرة ليس للمرض وانما لحياة هاشم.
الموت قهراً
أغلقت كافة أبواب الأمل في وجه أسرة سويد، فكانت قلوبهم تنفطر وهم يشاهدون طفلهم الحبيب يذوي أمامهم ولا يجدون وسيلة لتخليصه من معاناته والعودة به من جديد إلى بر الأمان، ومن دون مقدمات أعلن الطاقم الطبي يوم الأربعاء 12 أكتوبر الجاري عن وفاة أبننا هاشم بعد أقل من 24 ساعة من دخوله العناية المركزة.
لم يتحمل الأب الصدمة وفقدانه الحلم الذي ظل يحلمه طوال عقود فانهارت قواه، وأرتفع لدية السكر وأصيب بغيبوبة سكرية، ليتوقف قلبه عن النبض أثناء عملية اسعافه من بيته في حارة السد بمنطقة نقم شرق العاصمة صنعاء باتجاه مستشفى الثورة العام ليودع بذلك أخي محمد الحياة ويلتحق بنجله هاشم تحت تأثير الصدمة والقهر بعد يومين فقط من وفاة نجله.