اقتصاد: وكالة الصحافة اليمنية
وافق الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، على استيراد محصول الأرز – الأكثر استهلاكا بين المصريين- موجها هيئة السلع التموينية (حكومية) بتسويق المحصول للعام الجديد، ووضع أسعار جيدة له بالاتفاق مع وزارة الزراعة، وذلك خلال اجتماعه أمس الأحد مع رئيس حكومته ووزير التموين والتجارة الداخلية.
قرار استيراد محصول الأرز الذي كانت تحقق مصر فائضا منه وتقوم بتصديره طيلة السنوات الماضية أعاد ملف سد النهضة مجددَا على موائد النقاش داخل الشارع المصري ، بعد فترة من الهدوء أعقبت زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد، آبي أحمد، للقاهرة وتعهده أمام الرئيس المصري بعدم الإضرار بحصة مصر من مياه النيل، تلك التصريحات التي فسرها البعض بأنها مطمئنة بشكل كبير.
حالة من القلق تخيم على المصريين طيلة الأربع وعشرين ساعة الأخيرة، وعشرات علامات الاستفهام تطل برأسها تبحث عن إجابة، حول تداعيات هذا القرار، سواء ما يتعلق بأسعاره المتوقع ارتفاعها بشكل كبير بالنسبة للمستهلكين العاديين، إذ تشير بعض التوقعات إلى تخطيه حاجز الـ 25 جنيهًا للكيلو الوحد بدلا من 5 جنيهات الآن، أو انعكاسات ذلك على الفلاح المصري وخارطة محاصيله الزراعية التي تمثل مصدر دخله الأساسي في ظل انحدار عوائد المحاصيل في السنوات الأخيرة بسبب ارتفاع أسعار الأسمدة والخدمات الزراعية الأخرى، ثم السؤال الأكثر خطورة: هل يصبح الأرز أول ضحايا السد الإثيوبي؟ وعلى من يأتي الدور مجددًا؟
القرار “النكسة”
انتقال مصر من دولة مصدرة للأرز إلى مستوردة له وصفه البعض بأنه قرار “نكسة” كما جاء على لسان نقيب الفلاحيين المصريين، حسين عبدالرحمن أبو صدام، الذي أرجع هذا القرار إلى سوء إدارة تتطلب إعادة نظر حفاظا على مستقبل الدولة الاقتصادي ومستقبل الملايين من العاملين في قطاع الزراعة.
أبو صدام تساءل في بيان له عن إصرار الحكومة على الاستيراد لسد الاحتياجات بهذه السرعة دون اتخاذ طرق أخرى، بعيدًا عن الحل السهل الذي يحمل في مضمونه مخاطر تهدد مستقبل المزارع والزراعة المصرية؟!.، مطالبًا بضرورة البحث عن أصناف جديدة من الأرز لا تحتاج لمياه كثيرة وتعطي نفس إنتاجية المحصول القديم.
حتى فكرة الاستيراد – حال التسليم بها – أثارت قلق نقيب فلاحي مصر، محذرًا مما أسماهم “حيتان الاستيراد” ممن يدفعون مركب الحكومة إلى الغرق، في ظل تغليب مصالحهم الشخصية في الكسب المادي على مصالح الدولة، محذرًا من السياسات المتبعة وتداعياتها على الاقتصاد الزراعي.
“الأرز كان المحصول الوحيد الذي نعتمد عليه لسد ديوننا وتوفير احتياجات الأسرة كل عام، لكن مع تعليمات الحكومة الجديدة بتخفيض مساحة زراعته أصبحنا في خطر ولا ندري من أين ننفق على أبنائنا..” بهذه الكلمات علق محمود سعد، مزارع بإحدى محافظات الدلتا على قرار الموافقة على استيراد الأرز.
سعد لـ “نون بوست” أوضح أن الحكومة والجهات المختصة كانت تتابع التزام الجميع بقرار منع زراعة المحصول بصورة أثارت قلق الجميع، قائلا” لو بيحاربوا زراعة البانجو (نبات الخشخاش المخدر) بالشكل دهم كنش دا بقى حالنا”، كاشفا أنه في كثير من الأحيان كان المزارعون يضربون بقرار الإدارة الزراعة عرض الحائط ويزرعون أراضيهم بالأرز، لكن في الحال تأتي قوة من الأمن برفقة مسئولي الزراعة ويقوموا بتبوير الأرض واقتلاع المحصول منها.
أما شريف عبود، موظف، فيقول إنه بجانب وظيفته التي لا يتجاوز راتبها 1200 جنيه شهريًا (67 دولار) يلجأ لزراعة بعض الأراضي لتحسين دخله السنوي أو على الأقل سد احتياجات بيته من محصول الأرز، لكن ومع قرار حظر زراعته، كيف يمكنه أن يحيا بهذا الراتب الهزيل؟
تراجع زراعته بنسبة 50%
في شهر أبريل/نيسان الماضي، وافق مجلس النواب المصري (البرلمان) على مسودة تعديل قانون زراعة الأرز رقم 53 لعام 1966 وذلك بتقليل مساحة الأراضي المزروعة بالأرز إلى 724 ألف فدان التي تعتبر أقل من نصف مساحة الأفدنة المزروعة عام 2017 التي وصلت إلى 1.8 مليون فدان، ووفقًا للقانون يُعاقب المخالفون بغرامات تتراوح بين 3000 جنيه وحتى 20 ألف جنيه والسجن 6 أشهر.
المتحدث الرسمي باسم وزارة الزراعة علق على هذا القرار في تصريحات له بأن : “هذه الكمية المسموح بزراعتها تكفي للاستهلاك المحلي أما البقية فكان يتم تصديرها”، مؤكدًا “أنه لا مخاوف مطلقا من تقليل المساحة لأنها محسوبة بدقة، والإنتاج سيغطي الاستهلاك المحلي بالكامل، خاصة أننا سنستخدم أصنافا جديدة عالية الإنتاجية، وشحيحة استخدام المياه؛ بل هناك بعض الأصناف تتحمل الجفاف، كما أن هذه الأصناف تمتاز بفترة قصرها والتي تصل إلي 120 يومًا مقارنة بالسابق 150 يومًا، وسيتم توزيع 80% من تقاوي هذه الأصناف لتدخل في الإنتاج هذا العام، مؤكدا أن إنتاجية هذه الأصناف تصل إلي من 5 إلي 6 أطنان للفدان”
مصطفي النجاري رئيس لجنة الأرز بالمجلس التصديري للحاصلات الزراعية، استنكر مبررات الحكومة تخفيض نسبة الأراضي المزروعة من الأرز، مشيرًا أن حجة استخدام كميات كبيرة من المياه “واهية” ولا أساس لها من الصحة، متسائلا: كيف لدولة مثل امريكا، واستراليا، وهما أكثر دولتين جفافا في العالم تزرعان الأرز بنفس مواصفات الأرز المصري؟.
أزمة السد وفقدان الشفافية
حالة من التعتيم فرضت نفسها على جولات مفاوضات سد النهضة الثلاثية بين مصر والسودان وإثيوبيا، والتي تجاوزت العشرين جولة، صفرية النتائج، وبات الاكتفاء بالتصريحات الوردية هي الحل الأمثل لتجنب غضب المواطنين واستثارة تخوفاتهم على مستقبلهم المائي، ومن ثم كانت الصدمة أكثر قوة وتأثيرًا.
البداية مع مشهد مارس 2015 حين تشابكت أيدي زعماء الدول الثلاثة معلنة توقيع اتفاق المبادئ الذي أعطى أديس أبابا الضوء الأخضر لبناء سدها، لتخرج وسائل الإعلام المصرية حينها بمانشتات تحمل صبغة التفاؤل على شاكلة “السيسي خلصها”.
وفي مشهد يعيد أجواء مارس مرة أخرى خرج الرئيسان المصري والسوداني ورئيس الوزراء الإثيوبي الأسبق، لإعلان التوصل إلى اتفاق مرضي لجميع الأطراف بشأن سد النهضة، وذلك عقب جلسة مباحثات جمعت أطراف الأزمة على هامش حضورهم قمة الاتحاد الإفريقي التي عقدت في أديس أبابا.
التصريحات الصادرة عن قادة الدول المعنية بالأزمة حينها مثل “لا توجد أزمة من الأساس بخصوص سد النهضة بين مصر والسودان وإثيوبيا” اعتبرتها وسائل الإعلام المصرية انتصارًا لمسار التفاوض المتعثر بشأن السد، ورغم أن الرئيس المصري لم يفصح عما دار في الاجتماع ولا إلى ما تم الاتفاق عليه، غير أن الأذرع الإعلامية التي كانت ترافق السيسي في زيارته تعاملت مع تلك التصريحات من باب “كلمة شرف” دون حاجة إلى التفاصيل.
التسريبات التي خرجت من الاجتماع وقتها أشارت إلى أن الاتفاق نص على أن إثيوبيا ستخزن 15 مليار متر مكعب من المياه سنويًا في سد النهضة، مما يتطلب تنازل السودان عن 7.5 مليار متر مكعب، ومصر عن 7.5 مليار متر مكعب (15% من حصتها) لمدة ثلاث سنوات، وهذه المياه التي كان سيزرع بها الأرز، لذلك سيقوم البنك الدولي بتعويض مصر عن هذه المياه، وستدفع إثيوبيا ثمن ذلك من كهرباء سد النهضة بعد ذلك.
الأمر لم يختلف كثيرًا عند زيارة آبي أحمد للقاهرة، ودفع السيسي له للقسم بأنه لن يضر بمصلحة مصر من مياه النيل، في مشهد أثار جدلا سياسيًا على نطاق واسع، بشأن تلك الدبلوماسية الجديدة التي تعتمد على التعهدات الشفهية غير المعترف بها دوليًا.
وكالعادة.. تبخرت تلك التصريحات – العاطفية – سريعًا مع استمرار أديس أبابا في بناء السد، والإعلان عن قرب امتلاء خزانه، وهو ما يعني أن القاهرة تسير بمفاوضاتها في واد والجانب الإثيوبي يسير بمخططاته ومشروعه في واد آخر، وأن ما حدث في الاتحادية أو الخرطوم ليس أكثر من محاولة كسب للوقت.
زير الري المصري، في تصريحات له، بعد مغادرة رئيس الوزراء الإثيوبي للقاهرة بأقل من عشرة أيام، حذر من أن بلاده على مشارف فقر مائي، وأن الوضع المائي حرج للغاية، لافتا إلى تراجع حصة المواطن بنسبة تقترب من حاجز الـ 50% مطالبًا بضرورة البحث عن مصادر بديلة، على رأسها معالجة مياه الصرف الصحي وتحلية مياه البحر، وهو ما يتطلب نفقات عالية.
وفي 26يونيه الماضي، قال الدكتور عز الدين أبوستيت، وزير الزراعة واستصلاح الأراضي: «إن مصر تعاني من الشح المائي، وتقع تحت مستوى الفقر المائي وفقا للتصنيف الدولي للدول التي انخفض فيها نصيب الفرد من المياه، فضلا عن أننا نعتمد على مصدر رئيسي للمياه وهو حصة مصر من مياه النيل وهي ثابتة، في الوقت الذي تعاني منه البلاد من الزيادة السكانية الكبيرة، تفرض الحد من استخدام المياه خاصة في القطاع الزراعي الاكثر استهلاكا للمياه».
الأرز.. لن يكون الأخير
لم يكن محصول الأرز هو الوحيد الذي يحتاج إلى كميات كبيرة من المياه، فهناك حزمة من المحاصيل الزراعية الأخرى، وهو ما يعني أنه لن يكون الأخير في قائمة ربما تتسع لتشمل عشرات المزروعات التي تميزت بها مصر طيلة العقود الماضية.
في تقرير لوكالة “بلومبيرج” تطرق إلى المخاطر الناجمة عن سد النهضة فيما يتعلق بالزراعة المصرية،إذ تعتمد مصر على نهر النيل في توفير أكثر من 90% من حاجتها المائية، ويعيش معظم سكان البلاد على الأراضي المحيطة بالنهر، والأهم من ذلك هو أنّ 60% من مياه النيل التي تصل إلى مصر تنبع من النيل الأزرق في إثيوبيا.
الوكالة كشفت عن دراسة أجراها أستاذ بجامعة القاهرة أشارت إلى فقدان مصر ما يقرب من 51% من أراضيها الزراعية إذا ما تمت عملية ملء الخزّان في 3 سنوات، مضيفة أنّ الملء على مدى ست سنوات سيكلف مصر 17% من أراضيها الزراعية.
دراسات حكومية أخرى قدرت أنّه مع كل تخفيض بمقدار مليار متر مكعب في إمدادات مصر من المياه، ستفقد البلاد 200 ألف فدان من الأراضي الزراعية، وستتأثر معيشة مليون شخص، وفق تقديرات رسمية تشير إلى أن كل خمسة أشخاص في المتوسط يعيشون على كل فدان.
ومن ثم.. يبدوا أن محصول الأرز لن يكون الضحية الأولى لسد النهضة، وأن إقرار استيراده يعني ضمنيًا الاعتراف بفشل المسار التفاوضي لهذا الملف المثير للجدل، ويعني أيضًا الاعتراف بسياسة الأمر الواقع التي نجحت أديس أبابا في فرضها طيلة السنوات الماضية، فهل تودع مصر ريادتها الزراعية التي تميزت بها طيلة الأزمان السابقة؟
المصدر:Noonpost