المصدر الأول لاخبار اليمن

الخبز الأخير.. قصة الطفل إبراهيم خليل الذي قتله صاروخ أمريكي وهو يحمل وصية أمه

عبدالكريم مطهر مفضل/وكالة الصحافة اليمنية//

في مساءٍ هادئ من نسيم صنعاء الجميل، حين تتسلل نسمات صيف أبريل المعتدلة عبر نوافذ البيوت الطينية، خرج الطفل إبراهيم محمد أحمد خليل، ابن الخامسة عشرة، وعينيه تنبضان بلمعان الحياة، من منزله الكائن في حي شعوب، يحمل في جيبه قطعة نقدية صغيرة ووصية والدته البسيطة: “هات لنا خبزًا من مخبز الجرادي، وحليب من البقالة”؟.. كانت تلك الوصية مهمةً يومية اعتاد عليها، لكنها هذه المرة كانت الأخيرة.

خروج اعتيادي.. ونهاية مفجعة

كانت مهمته جلب الخبز والحليب، لم يكن يدري إبراهيم أن رحلته القصيرة صوب سوق فروة الشعبي ستتحول إلى وداع أبدي.. لحظات قليلة فصلت بين خروجه من المنزل وبين انفجار صاروخ أمريكي مزّق جسده النحيل داخل مخبز الجرادي، ذلك الفرن الذي كان يُعرف في الحي بعطائه المجاني للفقراء.

استُشهد إبراهيم ومعه عمال المخبز، الذي نذر خبزه للفقراء والمساكين.. وسقط بجانبهما آخرون، من بينهم سائق دراجة نارية وأطفال آخرون، كانوا ضحايا لجريمة حربية حوّلت سوقًا شعبيًا يعج بالحياة إلى مسرح للموت.

طفل الحي الطيب.. صار شهيدًا

كان إبراهيم قد انتقل مع أسرته من قرية “مدام” بمديرية همدان شمال شرق محافظة صنعاء إلى وسط مدينة صنعاء، وهناك عرفه الجيران بلقب “الطيب النبيل” لكثرة ما تحلى به من خلق حسن وسلوك مؤدب، كان محبوبًا من الجميع.. يساعد أمه، يقبّل رأس أبيه، ويحلم أن يصبح مهندسًا يبني ما هدمته الحرب.. لكنه لم يُكمل دراسته، ولا حتى طفولته.

لم يكن له أي شأن بالسياسة، ولا علاقة له بأي صراع.. كان يحلم فقط أن يعود من المخبز بخبز دافئ ليضعه أمام أمه في العشاء، لكنه عاد شهيدًا محترقاً، محمولًا على الأكتاف، ملفوفًا بكفن أبيض ودمعة حارقة.

تقول والدته، وقد اعترى صوتها الوجع: “راح يشتري خبز مش سلاح.. لماذا قتلوه؟”

كلماتها تخترق صمت العزاء، وتُلخص مأساة أمة تُزهق فيها الأرواح لأسباب لا تُفهم، في عالمٍ تبدو فيه الطفولة هدفًا مشروعًا لصواريخ القتل الأمريكي.

مخبز للفقراء.. يتحوّل إلى مقبرة

لم يكن مخبز الجرادي مجرد محل تجاري، بل واحد من الأفران الخيرية التي تمنح الخبز مجانًا لعشرات الأسر المعدمة يوميًا، وفي لحظة.. تحوّل إلى كومة رماد.. حيث احترقت الأرغفة ومعها الأجساد.

كان الحاج الجرادي يفتح نافذة للرحمة وسط هذا الحصار القاسي، في لفتة كريمة جعلت منه رمزًا للعطاء في زمن القسوة، لكن القصف أغلقها إلى الأبد.. وتحول فرن الحياة إلى مقبرة جماعية لمجزرة خبز ودم.

دماء على أرصفة السوق

وفق إحصاءات وزارة الصحة بصنعاء، فإن الغارة الصاروخية الأمريكية على سوق فروة الشعبي مساء الأحد، أسفرت عن سقوط 46 مدنيًا بين شهيد وجريح، لم يكن في السوق مقاتلون، بل أناس بسطاء، باعة ومشترون، وأطفال يشترون الخبز.

وفي أعقاب الانفجار، لم يبقَ سوى الركام والدماء والدخان.. رجال الإسعاف انتشلوا الأشلاء من بين المحلات المحترقة، بينما وقف الأهالي مذهولين، يتفقدون بذعر شديد أجساد الشهداء، ويبحثون عن أسماء أبنائهم في سجلات المسعفين.

المشهد في سوق فروة الشعبي بعد المجزرة كان مرعبًا.. أشلاء متطايرة، وأجساد متفحمة، دخان كثيف، وقلوب مكلومة تبحث عن الضحايا المدنيين تحت الركام.

جريمة أودت بحياة العديد من الأطفال كان كل جرمهم أنهم ذهبوا لشراء الخبز.. أي رسالة أرادها القتلة؟ وأي منطق يبرر قتل الأطفال في مخابزهم؟

إبراهيم.. أيقونة وجع يمني

وفي عيون الجيران والأصدقاء، لا تزال صورته محفورة.. طفل بريء، يحب الحياة، يستشهد وهو يؤدي مهمة بسيطة لأمه، في زمن باتت فيه الخبز ثمنًا للحياة.

ودّع الجيران الشهيد إبراهيم في جنازة امتزج فيها البكاء بالغضب.. طفل خرج ليشتري خبز العشاء، فعاد محمولًا في كفن أبيض، وخلفه أم تبكي، وأب يعتصر الألم، وأمة كاملة تتساءل:

“كم يلزم من الخبز لنكفّ عن الموت؟ وكم شهيدًا نحتاج حتى يتحرك ضمير العالم؟”

لقد سقط إبراهيم وهو يحمل وصية أمه، لكنه نهض أيقونة في ذاكرة من عرفوه، وعارًا على صمت هذا العالم الذي يتغنى بشعارات حقوق الإنسان وحقوق الطفل الزائفة.

قد يعجبك ايضا