عبدالكريم مطهر مفضل/وكالة الصحافة اليمنية//
في حضن والدته، كان الصغير “عدي فادي أحمد” يتلوى من الضعف فوق سرير الطوارئ بأحد مشافي غزة، كان جسده أنحف من أن يحتمل البكاء، لكن صوته المبحوح يتوسل بحشرجة بالكاد تُسمع: “يا ماما.. بدي ننه”، لم يكن يطلب ألعابًا أو دفئًا.. فقط جرعة حليب، لكنه لم يجدها.. بعد أن غابت عن صدر أمه القدرة وعن قطاع غزة الحليب، وعن العالم الرحمة.
عاش أحد عشر شهرًا، وانطفأ دون أن تُلبى له أبسط حاجاته.. مات عدي جوعًا في قطاع غزة، أمام أباه وأمه التي كانت عاجزة عن منحه ما يمدّه بالحياة التي خُتِمت في شهادة الوفاة بجملة قصيرة وقاسية: “مات جوعاً”.
رسالة اعتذار تدمي القلوب
“ما قدرت أطعميه.. ولا أكل، ما كان عندي شيء”، تقول والدته وهي تلف جسده الصغير الهزيل وسط بطانية بصوتٍ مخنوق بالبكاء، وتضيف وهي تمسح على جسده الهزيل وقد فارق الحياة: “كان بدّه بس ننه”.
“لم يعد في ثديي شيء أُرضعه.. أنا نفسي جائعة”، تهمس أم عدي، وقد بدا على وجهها من الضعف ما يكفي ليُروى في قصة أخرى.
المجاعة تنهش الصغار
في غزة، التي لم تغب لحظة عن نشرات الأخبار طوال أكثر من عام ونصف، لم تعد فقط مسرحًا للدمار والقتل، بل صارت مقبرة مفتوحة للأطفال يموت الأطفال فيها بصمت.. ليس تحت أنقاض القصف فقط، بل تحت وطأة الجوع الذي ينهش أجسادهم النحيلة.
عدي لم يكن الأول، وقد لا يكون الأخير، في ظل حصار خانق يمنع دخول الغذاء والدواء، ويُطبِق على 2.4 مليون إنسان دون استثناء.
منذ أكثر من 6 أشهر، يعيش قطاع غزة على شفير المجاعة، بينما لم تدخل المساعدات الإنسانية منذ أكثر من 55 يومًا، وسط تحذيرات من الانهيار الإنساني الكامل، وفق ما أعلنته الجهات الرسمية في القطاع.
غزة.. مقبرة الأطفال الصامتة
هنا، لا يُقتل الصغار فقط بالصواريخ، بل تحت سياط الجوع والعطش، بينما يُغلق العالم عينيه، وتلوذ الأنظمة العربية والإسلامية بالصمت، أو تكتفي بالشجب والتنديد.
الطفل “عدي” ليس حالة استثنائية، بل نموذج مرير لواقعٍ يتكرر كل يوم، في ظل الحصار الإسرائيلي المشدد ومنع دخول المساعدات الغذائية والطبية.. آلاف الأطفال في غزة ينامون على بطون خاوية، لا حليب، لا دواء، لا مأوى.
وفقاً لتوثيقات المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، أكثر من 1.1 مليون طفل يعانون من الجوع وأكثر من 60 ألف طفل يعانون من سوء تغذية حاد، بينهم 3,500 طفل معرّضون للموت بسبب سوء التغذية ونقص الغذاء والجوع، فيما استشهد 52 فلسطينياً من الجوع 50 منهم من الأطفال، و 17 ماتوا من البرد بينهم 14 طفلاً، و39,400 طفل يعيشون بدون والديهم أو بدون أحدهما.
وبينما يُدفن الأطفال جوعى، لا يكتفي الاحتلال الإسرائيلي بمنع الغذاء، بل يقصف مراكز الإغاثة و 28 من تكايا الطعام، التي كانت تُشكّل ملاذًا أخيرًا للجوعى، ما يزيد من عمق الجرح، واتساع رقعة المأساة.
تواطؤ بالصمت
في الوقت الذي تقف فيه قوافل المساعدات عالقة على المعابر العربية، تُدفن أجساد الأطفال تحت رمال الجوع والعطش والحرمان.
المجتمع الدولي، والدول العربية والإسلامية، لم يفشلوا فقط في إنقاذ غزة، بل شاركوا في مأساتها بالصمت، بالتخاذل، وبالعجز المتعمد عن كسر الحصار أو إيصال شاحنة واحدة تحمل حليبًا لطفل مثل “عدي”.
مشاهد الطوابير.. ووجوه الموت
في ساعات الصباح الأولى، تُفتَح مشاهد الطوابير الطويلة أمام ما تبقى من مراكز توزيع الطعام، تشبه طقوس الوداع الأخير.. تتزاحم النساء في طوابير طويلة، يحملن أطفالهن الهزالَى، بعضهم لا يقوى على البكاء.. بأمل ضعيف في الحصول على كسرة خبز.
المشهد يتكرر مساءٍ.. أمهات يحاولن النجاة بصغارهن من الموت القادم، لكنه بات أقرب من أي وقت مضى.. غزة تُذلّ، تُجوّع، وتُترك فريسة للانهيار الإنساني الكامل، دون تحرك حقيقي من أي طرف عربي أو دولي.
جريمة تجويع
تُجمع المنظمات الإنسانية أن ما يحدث في غزة يتجاوز وصف الأزمة الإنسانية، ليكون جريمة تجويع منظمة، ترتقي إلى جرائم حرب.
وفي المقابل، المجتمع الدولي يواصل صمته، بينما تتكدّس آلاف الشاحنات المحملة بالمساعدات على أبواب المعابر، دون إذن بالعبور.. ومع كل يوم تأخير، يفقد طفل فلسطيني آخر حياته.. كما فقدها عدي.
عدي.. شهادة على زمن الخذلان