يضم العالم نحو مليار شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة، وهي واحدة من أكبر الفئات المجتمعية التي تواجه التمييز والإهمال، إذ نادرًا ما تلقى هذه الشريحة اهتمام الجهات المسؤولة أو الأشخاص المحيطين بها، لأسباب متعددة تتمثل بضعف التمويل وقلة الوعي المعرفي الذي يحرمهم من الاندماج في المجتمع وسوق العمل، فبحسب الإحصاءات 70% منهم غير ناشطين اقتصاديًا، وهي نسبة تعكس حجم التهميش والتقصير الذي يعانون منه.
يعيش 80% من أصحاب الإعاقة في دول العالم الثالث، وهم الأقل حظًا عن غيرهم بسبب الثقافة المحلية التي بالكاد تتقبل وجودهم وتعجز عن إشراكهم في الفعاليات والأنشطة الاجتماعية، إضافة إلى الجهود الحكومية التي تكاد تكون معدومة، فهي غير قادرة على سد احتياجاتهم وحل مشكلاتهم الأساسية واليومية.
في الواجهة الأخرى وعلى مدى السنوات الماضية، ظهرت ابتكارات تقنية وتكنولوجية عربية من الأردن وفلسطين، بادرت بالدخول إلى هذا العالم وقررت تغييره وإيجاد حل له يساعده على إنجاز مهماته اليومية والتفاعل مع الآخرين بحرية واستقلالية تامة، فمتى بدأ هذا الاهتمام التكنولوجي بذوي الاحتياجات الخاصة؟
من الصعب تخيل حياة ذوي الاحتياجات الخاصة دون الأدوات التكنولوجية التي ساعدتهم بشكل أساسي على التواصل مع الآخرين وإنجاز المهمات اليومية البسيطة التي كان من المستحيل تحقيقها دون الابتكارات المتطورة، حيث مكنتهم هذه التقنيات من كتابة الرسائل وقراءة الأخبار وتقليب الصحيفة وتحريك الملعقة للأكل وصعود الدرج وقيادة السيارة، وغيرها من التطورات التي كانت أشبه بثورة علمية وحياتية بالنسبة إلى كل من عانى من عجز جسدي.
فمن المتعارف عليه أن التكنولوجيا وُجدت في الأساس حتى تمكن الإنسان من التفوق على طبيعته البشرية المحدودة سواء العقلية أم الجسدية، وبشكل خاص تعمل التكنولوجيا المساعدة أو ما يطلق عليها Assestive Technology على تحسين القدرات الوظيفية للعاجز، والمقسمة إلى مستويات مختلفة بحسب درجة تقدمها.
بدأ هذا الاهتمام التكنولوجي بذوي الاحتياجات الخاصة أول مرة عام 1966، حين تم تعديل سياسة قانون الاتصالات في الولايات المتحدة الأمريكية التي نوهت إلى ضرورة توافر خدمات ومعدات الاتصال (الهاتف والتلفاز) للأشخاص الذين يعانون من إعاقة في البصر أو السمع.
فرض هذا الإجراء القانوني على الشركات المصنعة والمنتجة لخدمات الاتصال ضمان تصميم هذه الأدوات والوسائل بشكل يتناسب مع قدرات ذوي الإعاقات السمعية والبصرية، وكان الهدف من هذا الحكم تعزيز وصول جميع الأمريكيين إلى وسائل الاتصال دون استثناء، في المدارس والمرافق الصحية والمؤسسات العامة.
هذا القانون كان بداية لجميع الآلات والتقنيات التي سهلت لاحقًا حياة ذوي الاحتياجات الخاصة، ولعل العالم ستيفن هوكنج كان أشهر هؤلاء المصابين والمعتمدين بشكل تام على الأدوات التكنولوجية التي من خلالها ألقى محاضرات وألف كتب وعرض نظرياته العلمية ولف العالم دون أن يكون قادرًا على تحريك طرف من أطرافه، وكل هذا يعود إلى التكنولوجيا المساعدة المتطورة، التي سنذكر هنا اليوم مثالين عربيين منها.
ابتكار منذر القصاص
خرج هذا الاختراع إلى النور عام 2008 بعد حصول مخترعه الفلسطيني منذر القصاص على المركز الأول في “جائزة فلسطين الدولية للتميز والإبداع”، بعد سنوات من العمل والتطوير والصعوبات التي تخطاها القصاص تدريجيًا لإعانة المصابين بالشلل الرباعي على القراءة بأنفسهم دون الحاجة إلى طلب مساعدة.
بدأت هذه الفكرة كما يرويها القصاص بنفسه عندما كان في زيارة لأحد معارض الكتاب في قطاع غزة، فأثر في نفسه مشهد لمعاق يجلس على كرسي متحرك ويحاول تقليب صفحات الكتاب الموجودة أمامه لكنه لم يستطع. يقول القصاص: “ظل هذا الموقف عالقًا بذاكرتي وبدأت البحث عن كيفية مساعدة هذا الشاب، وغيره من المصابين بالشلل الرباعي، على تقليب صفحات الكتب بأنفسهم، إلى أن نجحت في تصميم جهاز قادر على تقليب صفحات الكتاب أوتوماتيكيًا بعد برمجته لفترة زمنية تتناسب مع سرعة قراءة المصاب للنص”.
يشرح القصاص مبدأ عمل جهازه، إذا يقول إنه يتكون من صندوق بلاستيكي يوضع الكتاب بداخله على شكل لفائف من الورق، ويتم التحكم به عبر لوحة تثبت على كرسي المريض أسفل رأسه من الخلف، حتى يسمح له بتقليب الكتاب لا سلكيًا من خلال تحريك رأسه يمينًا ويسارًا، بعد أن يُشحن الجهاز بالكهرباء ويوضع مقابل الشخص.
يقول القصاص أنه يعزم على تطوير هذا الجهاز حتى يمكن المتقاعد من تصفح كل ما يعنيه ويهتم به، وعلى الرغم من عدم نجاحه في المرحلة الجامعية فإنه تفوقه في الجانب العملي والإنساني دفعه في نهاية الأمر إلى إنجاز ما لم تستطع المؤسسات المسؤولة فعله.
قبل عدة سنوات قررت المهندستان الأردنيتان قمر الطراونة وديما زيدان أن يكون مشروع تخرجهما ذا فائدة حقيقية، لذلك التفتتا إلى زملاء الدراسة من الصم والبكم ولاحظتا المصاعب التي يواجهونها مثل مشاكل التواصل مع الطلاب والأساتذة وعدم قدرتهم على التفاعل أو طرح الأسئلة في أثناء المحاضرات، خاصة أن لغة الإشارة ليست وسيلة مشتركة وفعالة بشكل كافٍ للتواصل مع الآخرين، ما دفعهما في نهاية الأمر إلى تحديد فكرتهما وهدفهما بإصرار أكبر، حتى خرج قفاز “أبجد” إلى النور، كما تقول الطراونة لـ”نون بوست”.
بعد أن كان هذا الابتكار مجرد مشروع جامعي ونموذج ابتدائي، قررت المهندستان تطوير هذا الجهاز وإضافة تقنيات وأدوات تجعله عمليًا وأكثر قدرة على تلبية احتياجات الصم والبكم بسهولة وسلاسة، إذ يتكون الابتكار من قفاز يحمل حروفًا هجائية، يحول الكلمات المكتوبة إلى صوت مسموع بحيث يسمع الأشخاص العاديون ما يريد الصم والبكم إيصاله لهم، كما يحول الجهاز الجمل والأحاديث المسموعة إلى نصوص مكتوبة حتى يتمكن الصم والبكم من قراءتها، وهكذا تجري المحادثة باللغتين العربية والإنجليزية دون الحاجة إلى لغة الإشارة.
تضيف الطراونة والتي تعمل كمساعد بحث في الجامعة الألمانية في عمّان، أنه بـ”الإضافة إلى ذلك يتمتع الجهاز بخاصية غاية في الأهمية، إذ يُنبه الصم والبكم للأخطار المحيطة بهم ويعطيهم تحذيرًا بأن هناك صوتًا عاليًا أو صراخًا من حولهم، مثل صوت زامور السيارة أو بكاء رضيع من حولهم”.
لم تكن مراحل تطوير هذا الجهاز أمرًا هينًا، إذا تؤكد الطراونة أن “التجربة لم تخلُ من صعوبات تقنية، لكن الصعوبات الحقيقة تركزت في جزء الدعم والتمويل الذي حُصر فقط على المقابلات الإعلامية والصحفية، والإجراءات القانونية التي وقفت عثرة في طريق “أبجد” بأن يكون منتجًا متوفرًا في السوق”.
كما تضيف الطراونة بأن “الجوائز التي نالها هذا الابتكار صُرفت على تطوير الجهاز بشكل مستمر إلى أن أصبح القفاز الكهربائي جهازًا سهل الاستعمال وقابل للغسل ومناسب لجميع الأعمار وأحجام الأيدي”، مشيرة إلى أن الجهاز لم يتلق أي التفاتة جدية من الجهات الحكومية أو التمويلية.
لعل هذه الجهود العربية الشابة المتواضعة لم تلق صداها المطلوب والمستحق في العالم العربي، لكنها ما زالت تشير إلى العقول العربية والمبادرات الشابة التي تحاول ترك أثر في مسيرتها العلمية والمهنية، وتطرق باب الاهتمام الرسمي على الدوام، على أمل بتبنيها وتطويرها، لخدمة المجتمع والفئات الخاصة فيه، التي ما تزال تواجه الصعوبات المستمرة ولا تنال الرعاية الكافية بإحسان.